الظاهرة الملفتة للنظر في السنوات الأخيرة هي تنامي محاولات النَّيْل من الإسلام عبر وسائل إعلام بصورة لا تخفي رغبتها في الاستفزاز والإثارة، وكأنما هناك تخطيط وقصد محدد لإثارة مثل هذه الموجات وتحريكها على مدَد متقاربة.
وعلى الرغم من إبداء حكومات غربية ومنظمات ومؤسسات دولية قلقَها من انتشار مساحة العنف والغضب في أنحاء كثيرة من عالم اليوم، على خلفية الصراعات الدينية أو الطائفية أو المنطلقــة مــن رؤى دينية، بما يفرض ـ نظرياً ـ التوجه إلى (تبريد) أي سخونة أو مبررات الانفعال في هذا الاتجاه؛ إلا أن الذي يحدث هو عكس هذا التصور ومن تلك الحكومات ذاتها؛ فكأنما هناك توجه إلى المزيد من الإثارة والمزيد من الاستفزاز. والمثير للدهشة أن الكثير من هذه الإثارة وذلك الاستفزاز يأتي من دوائر غربية؛ هي ذاتها التي تشتكي من خطورة تنامي العنف والكراهية الدينية والعنصرية في عالم اليوم!
في مراحل سابقة كانت الظاهرة تنحصر في تبنِّي جهات غربية لشخصيات منتسبة إلى العالم الإسلامي ممن يتعرضون بالطعن أو الإساءة إلى الإسلام ومقدساته أو إلى المسلمين ومجتمعاتهم، وظهرت في هذا الإطار قصة (آيات شيطانية) للكاتب الهندي الأصل سلمان رشدي، وهي التي أثارت موجة واسعة من الغضب حينها، وصدرت فتاوى عنيفة لا يعرف أحد حتى الآن ماذا كان القصد منها والفائدة منها؟ ثم ظهرت بعد ذلك الأديبة البنجالية (تسليمة نسرين)، وأيضاً أثارت ضجة بكتاباتها وهجومها على الإسلام. وظهرت كذلك الأديبة نورما خوري التي ألفت قصة مزيفة فيها إساءات كبيرة للمجتمع المسلم وموقفه من المرأة تحديداً، ثم ظهرت «إيان حرصي» الصومالية الأصل الهولندية الجنسية، التي تعرضت بالسباب للإسلام ومقدساته، وتحدثت بأكاذيب كثيرة عن موقف الإسلام من المرأة وعن قصة حياتها هي ذاتها، وهو ما تبين بعد ذلك أنه كذب واختلاق.
أيضاً كان هناك الكاتب المصري «نصر حامد أبو زيد» الذي وضع مجموعة أبحاث يريد أن يثبت فيها أن القرآن كتاب بشري وليس وحياً، كما قدم رؤى مسيئة إلى الحضارة الإسلامية، وثبت علمياً أن رؤاه تلك مجرد أكاذيب وأخطاء علمية فادحة.
ويلاحظ أن جميع هذه النماذج قوبلت بترحاب كبير واحتفالات صاخبة من مؤسسات علمية وأكاديمية وسياسية وثقافية وإعلامية غربية، في أكثر من عاصمة، كما أنهم جميعاً دُعِموا مادياً وأدبياً من خلال تأسيس مراكز بحثية لهم أو توظيفهم في جامعات أوروبية كبيرة، أو ترجمة أعمالهم بمقابل مادي ضخم ومبالَغ فيه، كما أنهم جميعاً يحظون برعاية خاصة من حيث الإقامة والحماية والحضــور السياســي أو الثقافــي أو الإعلامي، على الرغم من أنهم قبل أن يسبُّوا الإسلام أو يتهجموا على مقدساته كانوا نكرات، وهو ما يعني أن سبب شهرتهم الوحيد هو سب الإسلام، فلم يكونوا قامات فكرية أو أدبية كبيرة مثلاً ثم رأت رأيا مختلفاً، وإنما شخصيات مجهولة ومعدومة القيمة تقريباً فكرياً وعلمياً وأدبياً، غير أن ما حدث بعد ذلك مثّل تطوراً خطيراً في منهج الاستفزاز والإثارة؛ لأن التوجه الآن أصبح يتمثل في ابتداع سلوكيات وأفعال وأقوال وممارسات من شخصيات غربية مباشرة ضد الإسلام والمسلمين، دون انتظار إلى «وافد» من العالم الإسلامي يقوم بالدور، فأصبحنا نقرأ ونسمع لشخصيات سياسية رفيعة تتحدث بصفاقة عن الإسلام والمسلمين وعن عقيدة المسلمين، وأصبحنا نسمع ونقرأ لشخصيات دينية رفيعة، بما في ذلك بابا الفاتيكان نفسه، تتحدث بشكل بالغ الاستفزاز عن الإسلام وعقيدته وتاريخه وحضارته، وأصبحنا نقرأ ونسمع لقيادات شعبية برلمانية هجوماً فجّاً على الإسلام والمسلمين، ودعوات صريحة لـ «تطهير» أوروبا من الإسلام والمسلمين، ثم أصبحنا نقرأ ونشاهد ونسمع كل حين عن أفلام وصور وكاريكاتيرات ومقالات، تهزأ وتجرح في مقدسات المسلمين بصورة شديدة الفجاجة والاستفزاز، على النحو الذي حدث في الرسوم الدنماركية المسيئة إلى النبي الكريم، ويبدو أنها فتحت باباً جديداً يجري تطويره بإنتاج أفلام وروايات أشد إسفافاً وفجاجة مما سبق.
نحن إذاً أمام موجة جديدة من الغلو الغربي والعدوانية تجاه الإسلام ومقدساته والمسلمين وحرماتهم، وهو ما يمثل تحدياً جديداً يستدعي التوقف عنده، والتأمل في خلفياته وتطوره، ثم البحث عن آليات وخطط وبرامج التصدي لمثل هذا التحدي الجديد؛ لأنه في تصوري لم يعد من الملائم أن تُترك الأمور للاجتهاد الفردي أو اللحظي؛ ولم يعد مناسباً أن نتصرف بشكل مؤقت وجزئي مع كل واقعة تفاجئنا فنتصرف حيالها بشكل غاضب أو متعجل دون أُطُر أو استراتيجيات رصينة تعرف مسبَقاً كيف تتعامل مع مثل هذه التحديات، ولذلك أعتقد أن من الضروري أن يتنادى قطاع من النخبة المسلمة، من المقيمين في الغرب ومن أهل الخبرة والعلم والفكر المقيمين في العالم الإسلامي، من أجل تكوين مركز أبحاث أو لجنة أو جمعية أو هيئة أو ما شئت من تسمية؛ يكون جهدها الجوهري موقوفاً على رصد الظواهر الغربية المتعلقة بالإسلام، سواء أكان ذلك في الشأن الفكري أو الإعلامي أو الثقافي أو الفني أو غيره، ووضع تقارير رصينة وجادة عن هذه الظواهر وهي في مهدها، مع تقديم تصوّر لما يمكن أن تؤول إليه في المستقبل، ومن يقوم على تفعيلها ونحو ذلك؛ مع طرح تصورات أخرى لكيفية مواجهة مثل هذه الظاهرة في أطوارها الحالية والمحتملة، وكيفية احتواء أغراضها، بما يحول دون تشكيلها أزمةً في الداخل الإسلامي أو اضطراباً، ودون أن تنجح في تحقيق أغراضها من الإثارة والتهييج على المسلمين سواء في أوروبا وأمريكا أو في العالم الإسلامي نفسه.
ويمكن تطوير مثل هذه الجهود لاستيعاب أنشطة أخرى، بما في ذلك صناعة جسور من التواصل والحوار المباشر مع أصحاب هذه النزعات، ومع المنابر الإعلامية والثقافية والسياسية الغربية ذاتها لقطع الطريق على المزايدات، وربما النجاح في وقف أعمال مسيئة وهي في مهدها، ومن الممكن ـ كخطوة أولى في سبيل هذا المشروع ـ أن تكوِّن بعض الجمعيات الإسلامية أو المؤسسات الدعوية أو الخيرية إدارات من داخلها أو مراكز تتفرغ لمثل هذا الموضوع الهام والحيوي، الذي يتعاظم خطره يوماً بعد يوم.
أتمنى أن تحظى الفكرة باهتمام النخَب المسلمة، والجمعيات الخيرية، وبخاصة أن الظواهر الأخيرة كلها تدل على أننا مقبلون على تحديات خطيرة في هذا المجال.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جمال سلطان (البيان250)