د محمد وقيع الله
كان فرانسيس فوكاياما واعياً وهو يصوغ نظريته حول نهاية التاريخ، إنه إنما يعيد صياغة نظرية دينية، طالما دأب المفكرون العلمانيون الاوروبيون على إعادة صياغتها، بعد تفريغها من مضامينها اللاهوتية التي شبّعها بها رائدها، الذي تولى مهمة صياغتها الأولى وهو المسمّى بالقديس أوغسطين، الذي عاش بالجزائر وأوروبا، وترك بصماته واضحة على تطور الفكر السياسي الغربي بابتكاره لنظرية "مدينة السماء"، التي تجلب معها السلام والخير الأسمى لبني الإنسان وتصبغهم بروح المسيح عليه السلام، وبها تُختتم صفحات هذه النظرية ذات الطابع الروحي المتفائل.
أثر هذا النمط من التفكير تأثيراً هائلاً على مسار الفلسفة الأوروبية. وترسَّم خطاه عدد من فلاسفة عصر «التنوير» التقدميين الذين أشاروا إلى أن خط التاريخ هو في حركة صعود مستمر لا يتقهقر، تماماً كما ذكر أوغسطين، ولكنهم خالفوه عندما أكدوا أن حركة التاريخ لا تتصاعد إلا بعد حذف مكوِّن سلبي يركض بها إلى الوراء، وهو نفس المكون الذي ذكره أوغسطين كمحرك تقدمي لخط التاريخ، ألا وهو الدين!
وهكذا دعا الفلاسفة التنويريون أمثال "سان سيمون" و"أوجست كونت "و"شتال" إلى حذف الدين واعتماد العقل وحده محركاً تقدمياً لخط التاريخ، وظلت تلك الفكرة سنداً لكل الفكر الليبرالي اللاحق، واستوحتها كذلك الفصائل الثورية لاسيما الماركسية منها.
مصادر فوكاياما :
وكنتُ أظن أن فوكاياما إنما استقى نظريته تلك من تراث الجدل الهيجلي الذي طوّر تراث التنويريين التقدميين، ولكن من دراسة تاريخ فوكاياما نفسه، اتضح إنه تتلمذ في الجامعة على يد مفكرين من مدرسة لي شتراوس الذي قضى عمره يطور تراث أوغستين، لقد تتلمذ فرانسيس فوكاياما على يد البروفيسور الامريكي الشهير «آلان بلوم» ـ أشهر تلاميذ شتراوس ـ وقد دفع بلوم بتلميذه النابغ فوكاياما إلى دراسة آثار المفكر الروسي المتفرنس الأسكندر كوجييف وهو الآخر تلميذ لشتراوس، وكان قد أطلق توقعه بانهيار الاتحاد السوفييتي خلال الأربعينيات، وقال بأن كل الأيديولوجيات ستنحسر ما عدا نمط الحكم الليبرالي الأمريكي، الذي تنبأ له بأن يصبح الأنموذج الأمثل، الذي تتنادى كافة المجتمعات الإنسانية بتمثله واحتذاء خطاه، فأتى فوكاياما ليسمي ذلك بنهاية التاريخ.
هذه الفكرة عن نهاية التاريخ لتراث الفكر الهيجلي من أكثر من وجه. فمن ناحية كان هيجل يقرر في جدله بأن "الصالح" لا ينتج إلا من "الطالح" نفسه، بعد أن يفنى ويتحول على نحو جذري حاسم إلى شيء مضاد له تماماً.
إن هيجل قد رفض أية فكرة للتطور التدريجي، فالتطور لابد أن يكون ثورياً، والوضع الجديد لابد أن يستخلص تماماً من قلب القديم ويحل محله، وبالطبع فهذا ما لم يحدث حين انهار الاتحاد السوفييتي بنمطه الأيديولوجي الشيوعي، فالنظام الليبرالي الذي يبشر به فوكاياما ختاماً للتاريخ لم يستخلص من صلب التراث الماركسي وإنما كان موجوداً وجوداً ذاتياً من قبل.
ومن ناحية ثانية، فإن هيجل ما كان يؤمن كثيراً بالفكر الليبرالي ولا يرى فيه ختاماً للتاريخ، بل كان يؤمن بالدولة التي يسمو سلطانها على كل المصالح الفردية، بل ويسمو على القانون نفسه، ولذلك فقد سمح للدولة أن تخضع الحق للقوة، وأن تكون مشروعيتها فوق مشروعية القانون.
وبالطبع، فهذه ليست أفكار فوكاياما الذي حاول أن يلتصق التصاقاً حميماً بالفلسفة، وأن يكون عالماً سياسياً في نفس الوقت، وأن ينتهز الفرصة التي سبقت بسقوط الاتحاد السوفييتي ليبشر بشيء جديد ليس فيه أصالة الفلسفة، ولا أحكام العلم السياسي، وإنما حتميات الأيديولوجيا التي جاء ينظر لنهايتها، وهذا هو أول مكمن من مكامن التناقضات التي حفلت بها دعوة فوكاياما، فهو إذ يدعو لسيادة الليبرالية إلى الأبد، لا يبدو لنا ليبرالياً، لأنه يلغي الأفكار الأخرى، ويحكم عليها بالفناء، ويقدم المشروعية، ويدعو لممارسة العنف ضدها، ويمهد للسيطرة المطلقة للأيديولوجية الليبرالية بوجهها الرأسمالي لتتحكم بها في الواقع المعاش فقط، وإنما في المستقبل على كل امتداداته، والتصدي بالقمع لكل من يعترض ذلك المصير.
مطبات التاريخ :
إن فوكاياما لم يقل بأن التاريخ كله قد انتهى بالفعل، وإنما أشار إلى ان نهايته التامة تأتي باعتناق الكل للفكر الليبرالي، وهذه بمثابة الحتمية عنده، وهاهو يتحدث عن الاتحاد السوفييتي السابق باعتباره الآن حبيساً في أحد مطبات التاريخ: "يستطيع الاتحاد السوفييتي السابق أن يخرج من موقعه التاريخي الحالي ليتدهور إلى وضع سابق تاريخياً، كما أن بامكانه أن يتبع ارشاد الغرب فيتقدم صعداً في خط التاريخ".
وأما بقية العالم غير الليبرالي، فينطبق عليه تماماً ما ينطبق على الاتحاد السوفييتي السابق، ولذا يستعجل فوكاياما جميع أقطار العالمين الثاني والثالث لتلحق بالعالم الأول الليبرالي وإلا فإن العالم لن ينعم بالسلام بسبب من بقايا الأيديولوجيات الراكدة تحت سقف التاريخ.
ولذلك يتهم فوكاياما دول العالم غير الليبرالي باشعال نار الحرب، كما يتهمها باستغلال الأيديولوجيا لغير ما غرض موضوعي. إذ لا توجد أي أيديولوجيا ـ باستثناء الليبرالية ـ تدافع عن مصالح الأفراد أو الأمم وليس فيما وراء الأيديولوجيا الا الدعوة للخراب.
إن وهن الأيديولوجيا الحالي يدعو للقضاء عليها سريعاً وتجاوزها، لا إلى التحاور أو التفاعل معها، أو إعطائها أية وجهة نظر ايجابية.
لاشك أن فوكاياما قد تجاوز بوهج الزهو بالانتصار الذي حققه الغرب على الاتحاد السوفييتي السابق، كل مقولات الآباء التأسيسيين لعلم السياسة الحديث أمثال سيمور مارتن ليبث ودانيال بيل وبيزنسكي، بل وصمويل هنتنجتون نفسه.
لقد لاحظ المفكران الأولان أن الأطروحة الرأسمالية قد راجعت نفسها كثيراً ونحت نحو اقتباس احتياطيات كثيرة من الفكر الاشتراكي لتقيد بها اقتصاد السوق، وكذلك فعل الأصلاحيون بالفكر الإشتراكي ليتبنى سوقهم بعض شروط اقتصاد السوق، قد لاحظ المفكران الأخيران في كتاب لهما صدر في عام 1964، أن أوجه التشابه بين النظامين الرأسمالي والإشتراكي ستكون أبرز خطوط مستقبل الحضارة الإنسانية، مع أنهما نفيا أي احتمال لاندماج النظامين المختلفين أو انهيار احدهما، لينتصر الآخر ويتوج تاريخ نضال الإنسان الفكري والسياسي على السواء، ولكن فوكاياما افتقد كل مرونة هؤلاء بحكمه الجزافي على كل الايديولوجيات بالفناء، وحكم لليبرالية بأن تصبح"الدين" البشري الأخير.
فرضيات النظرية :
وإنما تصبح الليبرالية نهاية التاريخ لأنها تسمح بتلبية كل حاجات الإنسان، إذ تسمح بالملكية الخاصة وتطويرها، وتشجع المبادرة الفردية، والمشاركة السياسية، وتحقق المساواة أمام القانون، ومن دفع الملكية الخاصة، والمبادرة الفردية، وحماية القانون، تكتمل سيطرة الإنسان بواسطة التكنولوجيا على مصادر الطبيعة، وتسود الرفاهية، ويتحرر الإنسان نهائيا من ربق الحاجة، وذل الفقر، كما تؤدي التكنولوجيا من ناحية أخرى إلى تشكيل الثقافة الإنسانية الجديدة التي توحد بين البشر عبر محيط العالم، وهي ثقافة عمادها هجر التعصب للايديولوجيات التي كانت أصل الشرور والحروب.
هذه الفرضيات التبسيطية كان يمكن قبولها لو آمنا أولاً أن حاجات النوع الإنساني حاجات مفهومة ومحددة المقدار، ولو آمنا ثانياً أنها حاجات متشابهة بمعنى أن البشر جميعاً يشتركون فيها بلا استثناء، ولو آمنا ثالثاً بأن تلك الحاجات قابلة فعلاً للإشباع، ولو آمنا أخيراً بأن الدول التي وصلت إلى سقف التاريخ، وهي الدول الليبرالية حسب توصيف فوكاياما، قد قدمت لنا دليلاً عملياً واحداً على ما سبق، أي لو أنها كفت عن سلوك الهيمنة والتطفل على ثروات الشعوب التي لم تصل بعد إلى حد التاريخ!
تناقضات النظرية
وهنا تسفر إحدى تناقضات نظرية فوكاياما، إذ يقرر أن تاريخ الإنسان يقوده نزوع الإنسان نحو التفوق والحصول على اعتراف وتقدير الآخرين، وذلك ما حصل عليه الإنسان الغربي بنضاله المستميت ضد الأيديولوجيا الإشتراكية حتى قهرها ونال ذلك الاعتراف الكبير.. يقول فوكاياما "إن حب الظهور والتفوق كان رائد كفاح الإنسان منذ فجر التاريخ، وقد ظل الإنسان يخوض المعارك حتى الموت ليظفر بذلك المجد المرموق. وقد أدت تلك المعارك إلى ظهور طبقة الأرستقراط المترفعة ذات القيم العليا، وكذلك طبقة العبيد التي منتهى أملها أن تسود المساواة بين البشر، لا أن تحصل على شرف التفوق والاعتراف". هذا التطلع البرجوازي نحو المجد يعدّه فوكاياما نبلاً وشوقاً روحياً يتعالى على المطالب المادية، ويضحي بهذه المطالب كما يضحي بالروح العزيزة حتى يتحقق ذلك المطلب العلوي العسير، وهذه هي الفضيلة الأساسية التي يميزها فوكاياما بين طبقة "الأحرار" وطبقة "العبيد" التي يضعها قريباً جداً من مرتبة "الأنعام والدواب"، ولكنه مع ذلك يعود ليمجّد )الليبرالية ـ منتهى التاريخ( لأنه ستخفف حدة هذا الصراع، وحدة تلك الفوارق السحيقة بتحقيقها لمطلب "العبيد" المقهورين في المساواة. وبعد ذلك فإن فوكاياما الذي يبشر بالليبرالية نهاية سعيدة للتاريخ، سرعان ما يفاجئنا بأفكار تصادم تلك البشرى.
وهاهو يبدي أسفه لأن الليبرالية تؤدي إلى خمود طموح السادة التواقين إلى المجد وإلى الخلود، وتهبط بهم إلى مدارك البشر العاديين، أي "العبيد"، وتجعل من الحياة برمتها متاعاً مادياً مجرداً من التطلع البعيد، ومن التوق إلى ذرى الروح، وهاهنا يعيش البشر جميعاً كحيوانات"لا تستثنى من ذلك الا عصابات الإجرام التي يجرؤ أفرادها على المخاطرة والتضحية بأرواحهم في سبيل حب الظهور وانتزاع اعتراف الآخرين ببطولاتهم وتميزهم على سائر القطيع". إن رتابة الحياة التي يجلبها نمط الحياة الليبرالية المرفهة ستؤدي مجدداً إلى اضمحلال حياة الإنسان، وقد تدفع به إلى أن يهبط من قمة هرم التاريخ إلى سفحه ليبدأ نضاله الشاق من جديد، وتلك واحدة أخرى من نقاط عدم الإتساق في نظرية فوكاياما عن نهاية التاريخ، ولكنها يمكن تفسيرها بنزوع صاحبها نحو التلفيق والتردد ما بين المطالب الدينية الأصيلة لأوغستين، والمطالب المادية التي صاغتها فلسفة عصر التنوير.