لسنا بحاجة إلى تعمق في دراسة تاريخ ما سمي «بعملية السلام» كي ندرك أن المخطط الإسرائيلي منذ أربعين عاماً قائم على تصفية حقوق الشعب الفلسطيني. وعندما عجز عن كسر مقـاومة وكفاح وتصميم الشعب الفلسطيني استبدل مخطط التصفـية المباشرة بتكتيك التجزئة والتأجيل، وتجفيف القضايا، وحول فكرة الدولة المستقلة ذات السيادة إلى حكم ذاتي منزوع الصلاحيات على بقع مـقطعة الأوصال.
ذلك كان جوهر عملية أوسلو، ونتيجتها بعد 15 عاماً تضاعف عدد المستوطنين في الأراضي المحتلة، وبناء جدار الفصل العنصري وعزل الـقدس وفصل الضفة عن القطاع.
وباستئناف المفاوضات أصبح التركيز الإسرائيلي منصباً نحو إضفاء شرعيـة على المستوطنات الكبرى وتصفية قضية اللاجئين وتأجيل قضية القدس بهدف تصفيتها فعلياً من خـلال عمليات التهويد والاستيطان والعزل الشامل.
ومن هنا انبثقت فكرة «الدولة ذات الحدود المؤقتة» وهدفها المركزي انتزاع تنازل فلسطيني فوري عن حق عودة اللاجئين وعن بعض الأراضي مثل الكتل الاستيطانيـة، البحر الميت، قرى اللطرون (عمواس، يالو، بيت نوبا) وتنازل مؤجـل بتأجيل قضية القدس مع استمرار القانون الإسرائيلي بضمها وعملية التهويد والاستـيطان فيها.
وأحد التكتيكات الإسرائيلية التفاوضية التي تستعمل في هذا الإطار استبدال مضامين الأشياء والأسماء. فمن معارضة الدولة إلى القبول باسمها ولكن مع تفريغها من مضمونها السيادي. ومن رفض إزالة الاستيطان إلى القبول بإزالة بضعة بقع استيطانية لا قيمة لها، بعضها يقطنه 2 - 5 أشخاص فقط، ولا يزيد مجموع مستوطنيها عن 3 آلاف، مقابل تشريع الكتل الاستيطانية التي تضم 450 ألف مستوطن.
أما في حالة القدس، فإن تصريحات أولمرت وباراك تكشف أنهم يريدون تغيير مضمونها من القدس التي نعرفها ومنها المسجد الشريف وكنيسة القيامة والبلدة القديمة وجبل الزيتون وسلوان والعيسوية وغيرها إلى أحياء محيطة بالقدس كالعيزرية وأبو ديس وربما بيت حنينا.
وفي كل الأحوال تستغل "إسرائيل" ثغرة وقع فيها المفاوض الفلسطيني بقبول فكرة التجزئة والتأجيل كما حدث سابقاً في اتفاق أوسلو، أو بقبوله التفاوض على ما ينص عليه القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.
لا خلاف على أن التفاوض جزء من إدارة الصراع، ولكن التفاوض يكون على تطبيق القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية وليس على مضمونها، وقرارات الشرعية الدولية واضحة أكدتها حتى محكمة العدل الدولية في لاهاي، بأن كل الأراضي المحتلة منذ صبيحة الخامس من حزيران 1967، أراضي محتلة بما فيها القدس ببلدتها القديمة وأحيائها ومحيطها، والضفة الغربية وقطاع غزة وقرى اللطرون والجولان وحتى مزارع شعبـا.
وإذا كانت مصر لم تقبل بأقل من خروج "إسرائيل" من كل سنتيمتر من سيناء وسورية لا تقبل إلا بانسحاب شامل من كل الجولان، فالأحرى أن يصر الفلسطينيون على خروج المحتلين من كل الأراضي المحتلة، بدل الحديث عن تبادل أراض ملغوم بالمخاطر، خاصة وأن "إسرائيل" التهمت خلال حرب 1948 نصف أراضي الدولة الفلسطينية حسب قرار التقسيم لعام 1947.
وإذ نسمع اليوم تصريحات متناقضة عن ما يجري في المفاوضات فان الغموض في كشف محتواها وتسريب معلومات لعدد من الدول العربية عن إمكانية القبول بتأجيل قضية القدس، دون مصارحة الشعب الفلسطيني بما يجري حقاً، يثير القلق خصوصاً أن للشعب الفلسطيني تجربة سابقة مع اتفاق أوسلو الذي طبخ من وراء ظهر الوفد الرسمي المفاوض ثم قدم بشكل مفاجئ لإضعاف مقاومة المعارضة له.
ويعلم الجميع أن التنازل عن القدس العربية أو أي من أجزائها لن يلقى إلا المعارضة والرفض من الشعب الفلسطيني غير أن الحديث عن حل مؤقت آخر، أو إعلان مبادئ يؤجل القدس يحمل في طياته مخاطر لا تقل أبداً عن التنازل إذا ما فهمنا طبيعة وأسلوب الجانب الإسرائيلي، وإذا ما أردنا التعلم من تجربة مريرة من المفاوضات والاتفاقات الفلسطينية - الإسرائيلية والتي كانت تنتهي دائماً بالإجحاف التام بحقوق الشعب الفلسطيني وإضعافه.
ولعل تسمية الأشياء بأسمائها والوعي بعبء المسؤولية التاريخية التي يحملها كل من يتحدث باسم الشعب الفلسطيني، أمر حاسم في هذه المرحلة، والعبرة في ما ستحمله الأيام من مواقف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
الحياة اللندنية