الشرائع السماوية كافة جاءت لهداية الناس إلى الدين الحق، وإرشادهم إلى الصراط المستقيم، ومن هنا كانت الهداية محور عمل الأنبياء جميعاً، وملتقى كتب السماء كافة. وفي هذه الصفحات نكشف شيئاً عن لفظ (الهدى)، من جهة المعنى اللغوي، ومن جهة توارد هذا اللفظ في القرآن، والمعاني التي ورد عليها.
أما من حيث اللغة، فإن لفظ (الهدى) يفيد معنى الإرشاد والدلالة؛ يقال: هداه إلى الطريق وللطريق: أي أرشده ودلَّه إليه. والمسلم يطلب الهداية إلى الطريق المستقيم صباح مساء فيقول: {اهدنا الصراط المستقيم}، أي: أرشدنا يا الله إلى طريق الحق والصواب، ودلنا على ما فيه فلاحنا في الدنيا والآخرة.
قال ابن الأنباري: "أصل الهدى في كلام العرب: التوفيق". وقال ابن عطية: "الهداية في اللغة: الإرشاد، لكنها تتصرف على وجوه، يعبر عنها المفسرون بغير لفظ الإرشاد، وكلها إذا تؤملت رجعت إليه".
وقال الراغب: الهداية: دلالة بلطف، ومنه الهدية. وخُص ما كان دلالة بـ (هديت)، وما كان إعطاء بـ (أهديت)، نحو: أهديت الهدية، وهديت إلى البيت.
وأما من جهة توارد هذه اللفظ في القرآن فحدث ولا حرج، فإن القرآن الكريم بلغ الغاية في الاهتمام بموضوع الهدى والهداية والاهتداء؛ ولذلك تعددت اشتقاقات هذا اللفظ في القرآن، حيث جاء في نحو خمسين ومائتي موضع، وجاء بصيغ متعددة ومتنوعة.
فجاء اسماً بتصرفات مختلفة في خمسة وعشرين ومائة موضع، منها قوله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} (البقرة:2). وقوله سبحانه: {وكفى بربك هاديا ونصيرا} (الفرقان:31)، وقوله سبحانه: {فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا} (الإسراء:48) .
وجاء فعلاً مضارعاً بتصرفات مختلفة في تسعة وأربعين موضعاً، منها قوله سبحانه: {ويهدي به كثيرا} (البقرة:26)، وقوله سبحانه: {إلا أن يُهدى} (يونس:35). وقوله تعالى: {ولا يهتدون سبيلا} (النساء:98).
وجاء فعلاً ماضياً بتصرفات مختلفة في سبعة وثلاثين موضعاً، منها قوله تعالى: {وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله} (البقرة:143)، وقوله سبحانه: {والذين اهتدوا زادهم هدى} (محمد:17)، وقوله تعالى: {وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد} (الحج:24) .
وجاء فعل أمر ثلاثة مواضع: أولها: قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} (الفاتحة:6). وثانيها: قوله سبحانه: {واهدنا إلى سواء الصراط} (ص:22). وثالثها: قوله تعالى: {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} (الصافات:23) .
وهذا التوارد الكثيف والمتنوع لهذا اللفظ يُنبئ بمحوريته في القرآن الكريم .
وأما من جهة المعاني التي ورد عليها لفظ (الهدى) في القرآن، فهي كالتالي:
بمعنى البيان، ومنه قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} (البقرة:5)، أي: على نور وبيان وبصيرة. ومثله قوله سبحانه: {إنا هديناه السبيل} (الإنسان:3)، أي: بيناه له، ووضحناه، وبصرناه به. ونحوه قوله سبحانه: {إن علينا للهدى} (الليل:12)، يعني البيان. قال قتادة: على الله بيان حلاله وحرامه. ووروده على هذا المعنى كثير في القرآن .
بمعنى دين الإسلام، ومنه قوله تعالى: {إن هدى الله هو الهدى} (البقرة:120)، أي: إن دين الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل. ونحوه قوله سبحانه: {إنك لعلى هدى مستقيم} (الحج:67) .
بمعنى الإيمان، ومنه قوله تعالى: {وزدناهم هدى} (الكهف:13)، أي: إيماناً وبصيرة. ونحوه قوله سبحانه: {أنحن صددناكم عن الهدى} (سبأ:32)، أي: أنحن منعناكم عن الإيمان .
بمعنى الدعوة إلى الله، ومنه قوله تعالى: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا} (الأنبياء:73)، أي: يدعون إلى الله بإذنه. ونحوه قوله سبحانه: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا} (السجدة:24)، أي: يدعون الناس إلى ديننا بأمرنا.
بمعنى الدلالة والإرشاد، ومنه قوله تعالى: {وعلامات وبالنجم هم يهتدون} (النحل:16)، أي: جعل سبحانه النجوم في السماء دلائل للناس على طرقهم ومسارهم. ونحوه قوله سبحانه: {أن يهديني سواء السبيل} (الأنبياء:31)، سأل موسى عليه السلام ربه أن يدله على أقصد الطريق بحيث أنه لا يضل. ونحوه أيضاً قوله تعالى: {أو أجد على النار هدى} (طه:10)، أي: أجد عند النار من يدلني على الطريق .
بمعنى أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ومنه قوله تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} (البقرة:159)، قال أبو حيان: (الهدى): أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونعته واتباعه. ونحوه قوله سبحانه: {من بعد ما تبين لهم الهدى} (محمد:25،32)، قال قتادة: نزلت في قوم من اليهود، كانوا عرفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من التوراة، وتبين لهم بهذا الوجه، فلما باشروا أمره حسدوه، فارتدوا عن ذلك القدر من الهدى .
بمعنى القرآن، ومنه قوله تعالى: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى} (الإسراء:94)، أي: ما منع الناس الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا شبهة تلجلجت في صدورهم. ونحوه قوله سبحانه: {ولقد جاءهم من ربهم الهدى} (النجم:23).
بمعنى التوراة، ومنه قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الهدى} (غافر:53)، أي: التوراة. وهذا على معنى في الآية.
بمعنى التوحيد، ومنه قوله تعالى: {أرسل رسوله بالهدى} (التوبة:33)، قال أبو حيان: (الهدى): التوحيد، أو القرآن، أو بيان الفرائض. ونحوه قوله سبحانه: {وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا} (القصص:57)، قال مجاهد وغيره: نزلت في أبي طالب، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (قل لا إله إلا الله، أشهد لك بها يوم القيامة)، قال: لولا أن تعيرني قريش، يقولون: إنما حمله على ذلك الجزع، لأقررت بها عينك.
بمعنى نهج الأنبياء السابقين، ومنه قوله تعالى: {فبهداهم اقتده} (الأنعام:90)، روى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: نبيكم صلى الله عليه وسلم ممن أُمِرَ أن يقتدي بهم. رواه البخاري.
بمعنى الإلهام، ومنه قوله تعالى: {أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} (طه:50)، قال المفسرون: معناه ألهم الحيوانات كلها إلى منافعها. ونحوه قوله سبحانه: {والذي قدر فهدى} (الأعلى:3)، قال ابن عباس رضي الله عنهما: عرَّف خلقه كيف يأتي الذكر الأنثى.
بمعنى التسديد والتصويب، ومنه قوله تعالى: {وأن الله لا يهدي كيد الخائنين} (يوسف:53)، أي: لا يصوبه ولا يسدده. ونحوه قوله تعالى: {أرأيت إن كان على الهدى} (العلق:11)، أي: فما ظنك إن كان هذا الذي تنهاه، إن كان على صواب وطريق مستقيم في فعله؟
بمعنى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنه قوله تعالى: {فإما يأتينكم مني هدى} (البقرة:38)، أي: رسول. وهذا على قول في الآية.
بمعنى الرشد، ومنه قوله تعالى: {فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} (البقرة:16)، أي: راشدين في صنيعهم ذلك. ونحوه قوله سبحانه: {قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين} (الأنعام:56)، يقول: ما أنا من الراشدين إن اتبعت أهواءكم .
بمعنى التفضيل، ومنه قوله تعالى: {ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا} (النساء:51)، أي: يفضلون الكفار على المسلمين بجهلهم، وقلة دينهم.
بمعنى التقديم، ومنه قوله تعالى: {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} (الصافات:23)، قال ابن عباس: دلوهم إلى طريق النار. وقال ابن كيسان: قدموهم. وقال بعض المفسرين: المعنى: سوقوهم سوقاً عنيفاً إلى جهنم.
بمعنى الموت على الإسلام، ومنه قوله تعالى: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} (طه:82)، قال قتادة وغيره: أي: لزم الإسلام حتى يموت.
بمعنى التعليم، ومنه قوله تعالى: {ووجدك ضالا فهدى} (الضحى:7)، أي: وجدك لا تدري ما الكتاب ولا الإيمان، فعلمك ما لم تكن تعلم.
بمعنى الثبات، ومنه قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} (الفاتحة:3)، أي: بَصِّرنا فيه، وثبتنا عليه. قال القرطبي: ثبتنا على الهداية. وهذا كما يقال للقائم: قم حتى أعود إليك. أي: دُمْ على ما أنت عليه.
وإذا أنعمنا النظر في معاني (الهدى) التي جاءت في القرآن الكريم، تبين في المحصلة أنها تعود إلى معنى الإرشاد؛ إذ إن هذا المعنى هو المعنى الأساس الذي تلتقي عليه، وتدور حوله كل تلك المعاني، وهو ما صرح به ابن عطية كما تقدم.
ومن المهم أن نعلم في هذا المقام، أن معرفة المعاني المتعددة للفظ (الهدى)، وغيره من الألفاظ، تعين على فهم القرآن الكريم؛ وذلك أن هذا اللفظ يختلف معناه بحسب السياق الذي يرد فيه .
فمثلاً، قوله سبحانه: {إنك لا تهدي من أحببت} (القصص:56)، يبدو معارضاً لقوله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} (الشورى:52)؛ إذ الآية الأولى تنفي أن يكون الرسول يمكنه هداية من أحب، في حين أن الآية الثانية تثبت له الهداية. لكن إذا رجعنا إلى معاني لفظ (الهدى)، وعلمنا أن الهداية قد يراد بها هداية التوفيق والتسديد والإلهام، وقد يراد بها هداية الدلالة والإرشاد، تبين لنا أن الهداية المنفية في الآية الأولى إنما هي هداية التوفيق والتسديد والإلهام، بينما الهداية المثبتة في الآية الثانية إنما هي هداية الدلالة والإرشاد.