لأن العدل يستوجب أن يرد الحق لأهله، ولأن من حق من يقف مواقف الشجاعة والجرأة علينا أن نحييه ونشد من عزمه، خاصة أن الموضوع والموقف يخص فلسطين التي تعيش في قلب كل عربي ومسلم ، ولأن هذه المواقف باتت كالعملة النادرة وسط أجواء الصمت المريب لما يحدث في غزة، إن لم نسمها أجواء التآمر والمشاركة في الاعدام الجماعي لمليون ونصف مليون فلسطيني في قطاع غزة، من أجل كل ذلك وجبت التحية والتقدير للموقف الليبي الشجاع في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
استطاع المندوب الليبي في مجلس الأمن وللمرة الثانية قبل يومين، وبتوجيهات ودعم رسمي مباشر، تعطيل إصدار قرار يلوم الضحية، ويتباكى على المجرم، ويبرر القتل والوحشية العنصرية للاحتلال، ويتجاوز عن معاناة الشعب الفلسطيني، وبشكل أثار حفيظة مندوبي الدول التي طالما طالبت بالتوازن المزعوم عندما يتعلق الأمر بجرائم الاحتلال لتعرقل إصدار قرارات الإدانة ضد جرائمه.
إبراهيم الدباشي القائم بأعمال السفير الليبي في الأمم المتحدة شبّه الأربعاء 23/04/2008 في جلسة مغلقة لمجلس الأمن الدولي حول الشرق الأوسط،، شبّه الوضع في غزة بما حصل في معسكرات الاعتقال النازية، مما دفع عندها سفراء فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا وبلجيكا وإيطاليا وكرواتيا وكوستاريكا إلى مغادرة قاعة الاجتماعات تعبيراًعن احتجاجهم، وكالوا كلمات الادانة والتنديد للموقف الليبي الذي طالب ببساطة التوازن في البيان، وهو ما رفضته تلك الدول وبحسب مندوبة بريطانيا كارين بيرس التي اعتبرت أن الربط غير منطقي!
السفير الأمريكي أليخاندرو وولف ذهب لأبعد من ذلك ليقول بأن التصريحات "أبرزت درجة من الجهل التاريخي وعدم المراعاة الأخلاقية وهي واحدة من الأسباب الكثيرة التي جعلت المجلس غير قادر على التحرك في قضايا الشرق الاوسط والتي تجعل عملية السلام في الشرق الأوسط بهذه الصعوبة." أما جرائم الاحتلال فربما هي قمة الأخلاق في نظره"!.
الجميل أن إبراهيم الدباشي نائب مندوب ليبيا الدائم لدى الأمم المتحدة قال للصحفيين في اليوم التالي أي الخميس 24/04/2008 : "الامر يتجاوز ما حدث في معسكرات الاعتقال...هناك قصف.. قصف يومي (من قبل إسرائيل) ...في غزة. هذا لم يحدث في معسكرات الاعتقال." وأضاف الدباشي وهو بدرجة سفير "الأمر أسوأ من ذلك."، اي أنه لم يتراجع بل أصر وزاد، وهنا كان الموقف الشجاع الجريء.
هذا الموقف أطار عقل مندوب الاحتلال في الأمم المتحدة دان جيلرمان الذي قال متباكياً على قرارات الأمم المتحدة التي لا يوجد أكثر منهم خرقاً لها في لقاء مع الصحفيين أثناء غداء استضافته منظمة مشروع "إسرائيل" الاهلية "إن السماح بدخول ليبيا مجلس الامن كان خطأ تسبب في شلل الجهاز الرئيسي في الأمم المتحدة المسؤول عن حفظ السلام والأمن الدوليين، وقال: "جعلت ليبيا من المستحيل تماما التوصل إلى أي نوع... من البيانات بشأن الوضع في الشرق الأوسط."
الموقف المتكرر لهذه الدول وغيرها حرّك حتى الصحف التي كانت وقبل أسابيع فليلة تشن حملة ضد قيادة قطاع غزة، فخرجت الأهرام القاهرية اليوم في افتتاحيتها لتقول:
" لايمكن وصف انسحاب سفراء الدول الغربية لدي الأمم المتحدة من جلسة لمجلس الأمن أمس الأول، اعتراضا علي وصف المندوب الليبي محنة الفلسطينيين بأنها هولوكوست، إلا بأنها أشبه بمسرحية اعتاد الغرب علي أدائها من حين لآخر، عندما يتعلق الأمر بانتقاد إسرائيل في المحافل الدولية.
وتمارس الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، من خلال هذه المسرحية نفاقا لا مثيل له، إذ إنها ترفض بشكل مطلق توجيه مثل هذه الأوصاف إلي إسرائيل، في الوقت الذي لا تحرك فيه ساكنا عندما تمارس تل أبيب اعتداءاتها الوحشية علي الفلسطينيين، وأقصي ما يمكن أن يصدر عن هذه الدول هو مطالبة إسرائيل بضبط النفس، أي أنها توافق علي العدوان ضمنا لكنها تتحفظ علي الدرجة فقط.
وتنسي هذه الدول أن الوصف الذي أطلقه المندوب الليبي في مجلس الأمن لم يكن من بنات أفكاره بل هو مجرد تسمية للأشياء بمسمياتها الحقيقية، خصوصا أن نائب وزير الدفاع الإسرائيلي ماتاي فيلنان قال قبل أسابيع إن إسرائيل ستحول غزة إلي هولوكوست، ردا علي إطلاق الصواريخ علي بلدات إسرائيلية.
وللأسف الشديد، فإن ألفاظا مثل الهولوكوست والمحرقة والممارسات العنصرية أصبح محظورا استخدامها ضد ممارسات إسرائيل اليومية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بينما لا يتورع المسئولون الغربيون وكذلك وسائل الإعلام في إطلاق أوصاف مثل الإرهابيين والمتطرفين علي أي عمليات عسكرية سواء كانت مقاومة ودفاعا عن النفس أم كانت إرهابا.
ثم إن مثل هذا الاصطفاف الغربي، الدائم وراء سياسات وأعمال إسرائيل دون مناقشة جدية لهذه السياسات من شأنه أنه يفضح ما تبقي من مصداقية غربية تدعي العمل من أجل احترام حقوق الإنسان ومواجهة شتي أنواع التمييز ضد البشر."
الموقف الليبي كان هو الموقف الثاني الشجاع والجريء، حيث سبق وأن اتخذ الدباشي موقفاً مماثلاً في يوم الخميس 06/03/2008، والتفاصيل تقول:
في وقت لم تصدر أي إدانة ضد الاحتلال في عدوانه على قطاع غزة .. استنكرت معظم الدول الغربية عملية القدس ..
وتراوح وصف العملية بين "الوحشي" و "" الدنيء و"الإرهابي" و "المروع" و "المثير للصدمة" و "غير المبرر" و "التخريبي" و "البربري" و "المخيف" و "الجبان"!
وندد بها كل من الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مونوالولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا وفرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي والمفوضيةالأوروبية وكندا واليابان وتركيا واليونان. وأعرب كل هؤلاء عن تضامنهم مع إسرائيل وتمنوا ألا تؤثر في عملية السلام .. واجتمع مجلس الأمن بمجرد حدوثها من أجل إصدار بيان يدين تلك العملية ..
وقال مشروع البيان: "يدين أعضاء مجلس الأمن بأقوى العبارات الممكنة الهجوم الإرهابي الذي وقع في القدس في 6 آذار 2008 والذي أسفر عن وفاة وجرح عشرات من المدنيين الإسرائيليين."
وكان الوفد الأميركي يأمل أن يوافق المجلس المؤلف من 15 عضوا على المشروع بالإجماع إلا أن ليبيا يساندها بضعة أعضاء آخرين بالمجلس حالوا دون تبني هذا القرار.. وذكرت البعثة الليبية أنها تريد أن يناقش خلال الجلسة نفسها مشروع القرار الذي تقدمت به سابقا ويدين بشدة إسرائيل "لقتلها مدنيين أبرياء بما فيهم أطفال" في قطاع غزة .. وذلك حتى يتضمن البيان إدانة للهجمات الإسرائيلية الأخيرة في قطاع غزة والتي أودت بحياة أكثر من 120 فلسطينيا معظمهم من المدنيين.
الخلاصة هي فشل مجلس الأمن الدولي في التوصل الى اتفاق لادانة هجوم و تبادلت" اسرائيل" وليبيا الاتهامات بالارهاب. وقال السفير الاميركي في الامم المتحدة زلماي خليل زاد للصحافيين بعد اجتماع طارىء للمجلس "لم نتمكن من التوصل الى اتفاق لان الوفد الليبي وبدعم من بعثتين اخريين لم يرغب في ادانة الهجوم بحد ذاته".
واوضح خليل زاد ان الوفد الاميركي سعى للتوصل الى اجماع حول اعلان يدين "باشد العبارات" هجوم القدس لكن ليبيا الدولة العربية الوحيدة العضو في مجلس الامن حاليا وحليفتيها "ارادت ربطه بمسائل اخرى".
وكانت البعثة الليبية ذكرت انها تريد ان يناقش خلال الجلسة نفسها مشروع القرار الذي تقدمت به ويدين بشدة اسرائيل "لقتلها مدنيين ابرياء بما فيهم اطفال" في قطاع غزة. وقال خليل زاد "نعتقد ان قضية الارهاب قضية منفصلة وما حدث اليوم (هجوم القدس) هجوم ارهابي واضح". وقتل ثمانية طلاب وجرح تسعة آخرون عندما تمكن فلسطيني من القدس الشرقية من التسلل الى مدرسة تلمودية في القدس الغربية واطلاق النار في داخلها، حسبما ذكرت شرطة الاحتلال.
وفي رد غاضب على المأزق الذي وصل اليه مجلس الامن، انتقد سفير الاحتلال في الامم المتحدة دان غيلرمان ليبيا بشدة ووصفها بانها "دولة ارهابية" تسببت "بلوكربي"، الاعتداء على طائرة مدنية الذي اوقع 270 قتيلا في 1988 فوق البلدة الاسكتلندية.
وقال غيلرمان:ان "هذا ما يحدث مع الاسف عندما يخترق ارهابيون مجلس الامن". واضاف ان ذلك "يثير تساؤلات ليس فقط حول شرعية وجود دولة كهذه في مجلس الامن بل حول عضويتها في الامم المتحدة".
ورد نائب رئيس البعثة الليبية في الامم المتحدة ابراهيم الدباشي قائلا: "لسنا بحاجة الى شهادة حسن سلوك من النظام الارهابي الاسرائيلي او ممثليه هنا". واوضح ان اربعا او خمسا من الدول الاعضاء بما فيها ليبيا تصر على "تحرك متوازن يدين القتل في غزة والقتل في القدس".
كما سبق وأن اعترضت ليبيا سابقاً على استخدام كلمة "الإرهاب" لوصف الهجمات الصاروخية الفلسطينية على إسرائيل في مشروع بيان للمجلس يعرب عن القلق بشان العنف في غزة.
كل التحية والتقدير لهذه المواقف التي تثبت أن الارادة ان وجدت تستطيع أن تثبت بعض الحقوق، وأن تقف في وجه التفرد الذي ساد في السنوات الأخيرة.
بكل وضوح وصراحة ودون تملق نقول: شكراً للموقف الليبي ، وتحية لشجاعة وجرأة الوفد الليبي في مجلس الأمن، وكل الاحترام والتقدير لهذه الأصالة والايمان بحق شعبنا وقضيتنا التي هي قضية العرب والمسلمين جميعاً.