إن وسائل الاتصال الحديثة آية دالة على صدق النبوة المحمدية، وهي فرصة كبيرة لنشر الرسالة المحمدية، لكنها أيضاً أكبر تحدٍّ يواجه الدعاة إلى هذه الرسالة.
أما كونها آية .. فلأنها جعلت بلدان العالم كلها بمثابة البلد الواحد الذي كان يرسل إليه كل نبي قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وفي هذا دلالة علي أن الذي أرسل محمداً رسولاً للناس كافة لا لقومه خاصة هو الخالق سبحانه الذي كان يعلم أن العالم كله سيصير بمثابة القرية الواحدة، فلا يحتاج إلى تعدد المرسلين، ولا يحتاج إلى رسول بعد الرسول الذي تعم دعوته شعوب العالم أجمعين. لقد كان هذا التقارب بين بلاد العالم قد بدأ مع مبعث النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، لكنه ظل يزداد ويزداد مع تطور وسائل المواصلات والاتصالات، حتى وصل إلى ما وصل إليه في عصرنا، وربما تشهد العصور التي تلينا تقارباً أكبر، بسبب تطور أكثر في مجال الاتصالات. فمَنْ غيرُ الخالق سبحانه كان يعلم آنذاك أن هذا سيكون؟
إن الترابط بين شعوب العالم الذي أحدثه هذا التطور الكبير في وسائل الاتصال ليس إذن مجرد أمر دنيوي بالنسبة للمسلم، وإنما هو أمر يتصل بصميم عقيدته ؛ لأن فيه دليلاً يضاف إلى الأدلة المشيرة إلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما كونها فرصة لنشر الدعوة.. فأمر لا يكاد يحتاج إلى بيان. إن الكتب تطبع الآن بأسرع مما كانت تطبع به في الماضي، وتنتشر على نطاق أوسع مما كانت تنتشر به، والكلمات لم تعد تقتصر كتابتها بحبر على ورق، وإنما صارت الملايين منها تكتب في أقراص مدمجة يسهل حملها، ويسهل الوصول إلى المادة المكتوبة فيها. والكلمة المنطوقة لم يعد ينتهي صوتها بانتهاء النطق بها، وإنما صارت تسجل على أشرطة مسموعة وأخرى مرئية مسموعة، والرسائل لم تعد تحتاج إلى بريد بالجِمال أو بالسيارة أو الطائرة أو القطار، وإنما صارت ترسل في لحظات عبر الفاكس والبريد الإلكتروني. ثم الشبكة العالمية (الإنترنت) التي تجمع لك هذا كله، أعني: الكتابة والصوت والصورة والإرسال السريع والحفظ.
وقد استفاد الدعاة بحمد الله تعالى من كل هذه الوسائل، فسُجِّل كتاب ربنا بأصوات عدد من كبار قرائنا، وسجلت بعض أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وها نحن اليوم نستمع إلى دروس كبار شيوخنا ومحاضراتهم حتى بعد وفاتهم، وأما الشبكة العالمية فقد استفادوا منها هي الأخرى أيما فائدة، وما تزال المواقع الإسلامية تفتح فيها يوماً بعد يوم، وما تزال المادة الإسلامية المعروضة فيها في ازدياد مطرد. وقد سمعت عن أناس ورأيت أناساً هداهم الله تعالى عن طريق هذه الوسيلة.
وقد كان المسلمون في البلاد الغربية يشكون من أن الصحف والمجلات لا تفتح لهم مجالاً للنشر فيها حتى عندما يكون المقال رداً على افتراء على الإسلام، فإذا هم اليوم يكتبون ما يشاؤون على صفحات هذه الشبكة. لكنني ما زلت أرجو أن يزداد اهتمامنا بها واستفادتنا منها، وأرجو أن يأتي يوم قريب تكون فيه كل المراجع الإسلامية متيسرة فيها، وأرجو أن أرى فيها مقررات في شتى الفنون الإسلامية تأخذ بيد الراغب من المستوى الابتدائي وتتدرج به حتى توصله إلى المستوى الجامعي. وأرجو أن يأتي يوم تتحول فيه جامعتنا الأمريكية المفتوحة، وأختها كلية لندن المفتوحة، إلى جامعة إسلامية عالمية تضاهي الجامعات المفتوحة الكبرى كالجامعة البريطانية التي يبلغ عدد طلابها أكثر من مئتي ألف، أرجو أن يدرك المحسنون، وأن تدرك المنظمات الإسلامية في عالمنا الإسلامي أهمية مثل هذا التعليم الذي يسمى بـ (التعليم عن بعد)، والذي يصفه بعض رجال التربية الغربيين بأنه نظام المستقبل، فيولونه عنايتهم ودعمهم حتى تكون الدراسة في جامعته مجاناً، وحتى يوفر العلم الشرعي للراغبين فيه أنَّى كانوا على وجه الكرة الأرضية.
وأما كونها تحدياً عظيماً:
فأولاً: لأنها كما يسرت لنا إيصال دعوة الإسلام إلى غير المسلمين، فقد سهلت لغير المسلمين ولا سيما الغربيين إيصال دعوتهم إلينا، وبما أن إمكاناتهم المادية هي اليوم أكبر من إمكاناتنا، وبما أن إدراكهم لأهمية هذه الوسائل الحديثة أكبر من إدراكنا فإن ما يوصلونه إلينا يفوق كثيراً ما نوصله إليهم، بل إنهم لا يحتاجون إلى الاقتصار على الخطاب المباشر من الغرب إلى الشرق الإسلامي ؛ لأن لهم عملاء في بلادنا هم من بني جلدتنا ويعربون بألسنتنا، ويكتبون في صحفنا، ويتكلمون في إذاعاتنا ويظهرون في قنواتنا، ولا همَّ لهم إلا دعوتنا للسير في ركاب الغرب، في نظمنا السياسية، وأوضاعنا الاقتصادية، وقيمنا الخلقية، ونظرياتنا التربوية، وأساليبنا الأدبية، ونظرتنا التاريخية، بل وتصوراتنا الدينية، يعطون الكلمات العربية والمصطلحات الإسلامية مثل الأصولية معاني كلمات غربية ثم يكررونها بذلك المعنى الغربي على مسامعنا ليل نهار، واصفين بها كل مستمسك بدينه من الأفراد والدول والجماعات ليُدخلوا في روْع الناس أن مسلك هؤلاء وطريقهم هو الطريق الشاذ، وأن المسلم المعتدل إنما هو ذلك الشخص الذي يأخذ دينه مأخذ الغربي الليبرالي أو حتى العلماني للدين.
وثانياً: لأنها لا تفتأ تذكِّر المسلم بأن أكثر الناس على وجه الأرض ليسوا مسلمين، وأن أقوى دول الأرض سلاحاً واقتصاداً وأكثرها لذلك تأثيراً ليست دولاً مسلمة، بل وأن معظم الدول الإسلامية قد نهجت نهجها العلماني في نظمها السياسية وقوانينها، وكثير من نواحي حياتها الأخرى. وفي البشر ضعف يجعل من الشاق عليهم مخالفة الأمر الشائع حتى لو كان في نطاق قرية، أو مجموعة محدودة متن الناس كما كان الأمر في الماضي، فكيف إذا أصبح مخالفة لأكثر سكان العالم وأكثر دوله؟
إن هذا الضعف قد يصل بالإنسان إلى مجاراة الأكثرية في إنكار أمر هو موقن بأنه حقيقة لا ريب فيها ؛ ألم يقل الله تعالى لرسوله موسى عليه السلام:] فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى [ [طه: 16]، والإنسان قد يدفعه هذا الضعف إلى الضيق بما يعلم أنه الحق إذا رأى الناس يعترضون عليه باعتراضات مهما كانت واهية. ألم يقل الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: [فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل] [ هود: 12]، إن الله تعالى لا يرسل رسولاً تصده أهواء الناس عمَّا أوحى إليه ربه، أو تحمله اعتراضاتهم على الكف عن تبليغ بعض ما أنزل الله إليه، لكن في تذكير الرسل بعد الوقوع في مثل هذا النوع من الضعف دليل على أنه يقع من غيرهم، حتى لو كان من أتباعهم، وإذا كان الله تعالى يذكِّر رسله بعدم الاستسلام لمثل هذا الضعف فإن غيرهم أوْلى بأن يذكَّر ويذكِّر.
لكن حتى هذه الجوانب التي تبدو ضارة في وسائل الاتصالات الحديثة لا تخلو من نفع فيما يبدو لي، بل يمكن أن يُسْتغَل كثير منها استغلالاً حسناً لمصلحة الدعوة إلى الإسلام، وأرجو أن أبين هذا في مقال قادم بإذن الله وتوفيقه.