لا شك أن الإيمان نور يقذفه الله في قلوب من يشاء من عباده، وأن الكفر ظلام يملأ قلوب أصحابه وعيونهم.. قال تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ)(البقرة: من الآية257).
وأحسن شيء الإيمان وأقبح شيء الكفر بعد الإيمان.. روى الإمام ابن كثير في تفسيره قال: "لما وهب الله لداود سليمان قال: يا بني أي شيء أحسن؟ قال: سكينة الله والإيمان. قال فأي شيء أقبح؟ قال: كفر بعد إيمان. قال: فأي شيء أحلى؟ قال روح الله بين عباده. قال فأي شيء أبرد؟ قال: عفو الله على الناس وعفو الناس بعضهم على بعض. قال: فأنت بني".أ هـ.
وإذا خالطت حلاوة الإيمان بشاشة القلوب فلا يمكن للعبد أن يتخلى عن دينه أو أن يرتد عنه مهما كانت الأسباب ومهما بلغت المغريات ومهما تنوعت طرق الإغراء أو الإغواء؛ ولذلك قال هرقل لأبي سفيان ـ كما في البخاري: "وسألتك هل يرتد أحد منهم سخطا على دينه بعد أن يدخل فيه؟ فأجبت: لا.. وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب".
ولقد وضح هذا الأمر جليا في قصة السحرة مع فرعون؛ "فقد كان السحرة قبل إلقاء موسى عصاه كفارًا ضلالا يطلبون المكافأة عند فرعون فإذا بموسى يلقي عصاه فما هي إلا أن عرفوا أن ذلك من عند الله فخروا ساجدين لله مؤمنين به لا يتركون دينهم الجديد حتى وإن قطع فرعون أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبهم في جذوع النخل.. فقد انتهى الأمر وذاقوا حلاوة الإيمان فقالوا: (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (طـه:72)
روى البخاري عن أبي عبد الله خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه. ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه".
وهذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قد حدث مثله فيما ذكره ربنا تبارك وتعالى في سورة البروج قال تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (البروج:4،9)
وقد روى الحديث الذي فيه قصتهم الإمام مسلم في صحيحه عن صهيب رضي الله عنه، وفي الحديث أن الملك عذب الغلام حتى دل على الراهب قال صلى الله عليه وسلم: "فجئ بالراهب. فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى. فدعا بالمنشار فوضع المنشار على مفرق رأسه. فشقه حتى وقع شقاه. ثم جئ بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى. فوضع المنشار في مفرق رأسه. فشقه به حتى وقع شقاه."
ولما آمن الناس في النهاية واتبعوا دعوة الغلام وتركوا دين الملك "أمر (الملك) بالأخدود في أفواه السكك فخدت. وأضرم (فيها) النيران. وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها. أو قيل له: اقتحم. ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها. فقال لها الغلام: يا أمه! اصبري. فإنك على الحق".
قبح الجاهلية
ويكون الثبات على الدين أعظم إذا عرف الإنسان حلاوة الإيمان وظلمة الكفر وقبح الجاهلية؛ ولذلك كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس ثباتا على دينهم لما رأوه من حلاوة الإيمان بعد ما عاينوه من قبح الشرك. حتى أصبحوا هم أنفسهم أمثلة للصبر والتحمل والتمسك بهذا الذين حتى لو كانت النتيجة هي موتهم.
فهذا بلال بن رباح: كان مولى لأمية بن خلف فكان يضع في رقبته حبلا ويسلمه إلى الصبيان يطوفون به في جبال مكة. وكان يجبره على الجوع والعطش ويشده ويضربه بالعصا. وكان إذا اشتدت الرمضاء يطرحه في بطحاء مكة، ثم يوضع على صدره الصخرة العظيمة ويقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وتعبد اللات والعزى. فيقول قولته الخالدة: أحد أحد. (راجع سيرة ابن هشام 1/324).
ومن ذلك ما جرى للزبير بن العوام رضي الله عنه من تعذيب عمه له كما أخرج الحاكم عن أبي الأسود عن عروة قال: أسلم الزبير بن العوام وهو ابن ثمان سنين وهاجر وهو ابن ثمان عشرة سنة وكان عم الزبير يعلق الزبير في حصير ويدخن عليه بالنار ويقول: ارجع إلى الكفر فيقول الزبير: لا أكفر أبدًا.
ومصعب بن عمير: بعد أن كان فتى مكة المدلل جوعته أمه وعذبته وأخرجته حتى تخشف جلده كتحشف الحية.
وأما عمار بن ياسر: فكان عذابه شديدا، تنوعوا فيه بين الضرب وإخراجه في الرمضاء ووضع الصخرة على صدره وبين تحريقه بالنار تارة وتغريقه بالماء تارة، وقالوا لا نتركك حتى تسب محمدا صلى الله عليه وسلم فلما طغى العذاب ولم يعد يتحمل تلفظ بذلك. ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم باكيا فأنزل الله "من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان". ففاز بشهادة الله له بالإيمان وكذا شهادة رسوله عندما قال: "عمار ملئ إيمانا إلى مشاشه". (صححه ابن حجر في الفتح).
وكان فروة بن عمرو الجذامي عاملا للروم على الشام، وبعد ما رأى صبر المسلمين في مؤتة (3000 ضد 200000) أسلم؛ فحبسه الروم وخيروه بين الردة والقتل فاختار القتل فصلبوه وقتلوه على ماء في فلسطين يسمى عفراء.
وأما خباب بن الأرت: صاحب حديث النصرة ـ وحتى لا يظن أحد أنهم أول ما عذبوا سألوا النصرة، وإنما سألوها بعد أن بلغت بهم البلايا كل مبلغ ـ وخباب هو مولى أم أنمار بنت سباع الخزاعية. وقد تعرض خباب لشتى ألوان العذاب، لكنه تحمل وصبر في سبيل الله، فقد كانوا يضعون الحديد المحمي على جسده فما يطفئ النار إلا الدهن الموجود في ظهره، وقد سأله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- يومًا عما لقي من المشركين، فقال خباب: يا أمير المؤمنين، انظر إلى ظهري، فنظر عمر، فقال: ما رأيت كاليوم، قال خباب: لقد أوقدت لي نار، وسحبت عليها فما أطفأها إلا ودك ظهري (أي دهن الظهر).
ومما أخرجه البيهقي عن صبر النساء ما جاء عن "الزِّنِّيرة" ومدى عذابها وصبرها في الله حتى أعتقها أبو بكر رضي الله عنه فيمن أعتق من ضعفاء المسلمين الذين عذبوا في الله تعالى، قال البيهقي: فذهب بصرها وكانت ممن يعذب في الله على الإسلام، فتأبى إلا الإسلام، فقال المشركون: ما أصاب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: كلا والله ما هو كذلك، (وفي بعض الروايات: وما تدري اللات والعزى من يعبدهما، ولو شاء الله لرد علي بصري) فرد الله عليها بصرها".
وفي هذا الخبر دلالة على قوة إيمان الصحابة ووضوح عقيدة التوحيد عندهم وأن ذلك كان حتى على مستوى العامة منهم. وإن ما أكرم الله تعالى به تلك المرأة المؤمنة من رد بصرها إليها يُعدُّ إرغامًا للكافرين حيث كانوا يعتقدون أن أصنامهم تضر وتنفع من دون الله تعالى.
وخاتمة المسك مع خبيب رضي الله عنه: فقد أخذ في بعث الرجيع سنة أربع في صفر وبيع في قريش فلما أخرجوه ليقتلوه قال له أبو سفيان: أتحب أن محمدا عندنا نضرب عنقه وأنت بين أهلك؟ قال: لا و الله ما أحب أني في أهلي وأن محمدا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه.
وقال: اللهم أحصهم عددا وأهلكهم بددا ولا تبق منهم أحدا.وكان مما قال من ا لشعر قبل موته:
لقد أجمع الأحزاب حولي وألبوا.... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وقد قربوا أبناءهم ونساءهم.... وقربت من جذع طويل ممنع
إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي....وما جمع الأحزاب لي عند مضجعي
فذا العرش صبرني على ما يراد بي....فقد بضعوا لحمي وقد بؤس مطمعي
وقد خيروني الكفر و الموت دونه.... فقد ذرفت عيناي من غير مدمع
ولست أبالي حين أقتل مسلما .... على أي شق كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ.... يبارك على أوصال شلو ممزع
لقد مر بهذه الفتنة أكثر المسلمين سواء في ذلك الأغنياء والفقراء، والأحرار والعبيد، والرجال والنساء، وما هذا الذي ذكرناه إلا قطرة في بحر.. ولكننا ومن خلال هذه النماذج العالية يمكننا أن نعرف كيف كان أهل الإيمان يضحون بأنفسهم في سبيل هذا الدين ويتحملون أنواع الأذى في سبيل إظهار دعوتهم، والصبر والثبات عليها، وكيف تغلبت بشاشة الإيمان وحلاوة الإسلام على ظلمات الجهل ودركات الجاهلية.
إن الإيمان يشد أصحابه إلى الآخرة فتهون عليهم الحياة الدنيا، فإذا عرفوا قيمة هذا الدين، عملوا له واعتزوا به وبذلوا أرواحهم في سبيله نصرهم الله على أعدائهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد:7).