لما عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سراقة بن مالك عرض عليه سراقة المساعدة، عندما قال: (وهذه كنانتي فخذ منهما سهماً فإنك ستمر بإبلي وغنمي في موضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حاجة لي فيها"(رواه أحمد).
الكثير من الناس، وخاصة الكبراء والقادة منهم يظن أنه يستطيع أن يشتري كل الناس بجميع مشاربهم وأفكارهم واتجاهاتهم بماله وهداياه، ولا يعلم أن هنالك صنفاً من الناس لا يمكن أن يشتريهم أحد بأموال الدنيا كلها، ذلك لأنهم باعوا أنفسهم لله، فليس لأحد حق في معتقدهم أن يتصرف بهم سوى الذي اشتراهم، فليس للآخرين ما يقدمون ما يماثل ما قدم لهم الله سبحانه وتعالى "وهي الجنة"؛ لذلك نرى موقف الرسول صلى الله عليه وسلم يتكرر على مر الأزمان من العلماء الربانيين والدعاة المخلصين، الذين يرفضون أن يبيعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل.
ولقد كان تغير القلب بعطايا الأمراء وهدايا الكبراء مانعا لهؤلاء الأفاضل والأئمة الأماثل من قبولها، حتى بلغ الأمر بهم ترك كل ما يمكن أن يترك أثرا في القلب ولو بدعوة على طعام، لهذا صاح الإمام سفيان الثوري رحمه الله في العلماء: "كل من تخوفت من طعامه أن يفسد عليك قلبك فلا تجبه"(الزهد للإمام أحمد).
ولم يكن سفيان رحمه الله يقصد الولائم بعينها وإنما أراد كل ما يؤثر في القلب والنفس فيتقاعس صاحبه عن الصدع بالحق بكل عز وقوة حتى ولو كان بمجرد الدعوة على طعام.
ولقد كان ديدن العلماء والدعاة رفض العطايا والهدايا صيانة للنفس عن الوقوع في أسر الإحسان، وكف اليد حتى ينبسط اللسان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
عطاء يرفض الهدية:
عندما وعظ شيخ الإسلام مفتي الحرم، التابعي الجليل عطاء بن أبي رباح، هشام بن عبد الملك، أمر هشاماً من يرسل إليه كيساً به مال، وقال له: " إن أمير المؤمنين أمر لذلك بهذا. " قال: لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على رب العالمين " وخرج ولم يشرب عنده شربة ماء.(المصباح المضيء 2/110).
وكان عندما دخل على أبيه من قبل عبد الملك بن مروان، وهو جالس على السرير، وحوله الأشراف، وذلك في مكة في وقت حجه في خلافته، ووعظه، وسأله حاجة المحتاجين فلما انتهى قال عبد الملك: " يا أبا محمد إنما سألتنا حوائج غيرك، وقد قضيناها، فما حاجتك ؟ قال: مالي إلى مخلوق حاجة، ثم خرج فقال عبد الملك هذا وأبيك الشرف، هذا وأبيك السؤدد" (سير أعلام النبلاء 5/84، 85).
نعم...إنه سؤدد يشعر به الكبراء، عندما يرون هؤلاء الأعلام من العلماء يزهدون فيما هم فيه، بل إن هذا التعالي على زينة الدنيا التي ينعم بها هؤلاء، يكسب هؤلاء القدوات هيبة في قلوب السلاطين وأصحاب القرار.
الفضيل يرفض الهدية:
هذا التعالي على حطام الأرض، وذلك الاستصغار لمتاعها، هو الذي جعل أمير المؤمنين هارون الرشيد يلجأ إلى بيت الإمام القدوة "الفضيل بن عياض" ويجلس بين يديه جلوس التلميذ بين يدي معلمه، يستمع إلى مواعظه واحدة تلو الأخرى ويبكي بكاءً شديداً حتى غشي عليه، فقال له بعد أن أفاق "زدني فقال الفضيل: يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل، وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة". فبكى هارون وقال له: عليك دَين؟ قال: نعم، دين لربي، لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن ساءلني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجتي. قال: إنما أعني من دَين العباد. قال: إن ربي لم يأمرني بهذا، أمرني أن أصدق وعده، وأطيع أمره فقال عز وجل: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (الذاريات:56) فقال: هذه ألف دينار خذها، فأنفقها على عيالك، وتقو بهه على عبادة ربك، فقال: سبحان الله، أنا أدلك على طريق النجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا؟! سلمك الله ووفقك.. يقول الفضيل بن الربيع: ثم صمت فلم يكلمنا فخرجناه" (سير أعلام النبلاء 5/86).
أبو حازم يرفض الهدية:
وبعد موعظة طويلة وعظها إياه أبو حازم سلمة بن دينار المدني يقول له أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك: "يا أبا حازم، هل لك أن تصحبنا، ونصيب منك؟ قال: كلا، قال: ولم؟ قال: إني أخاف أن أركن إليكم شيئاً قليلاً، فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات، قال: يا أبا حازم ارفع إلي حاجتك، قال: نعم تدخلني الجنة، وتخرجني من النار، قال: ليس ذلك إلي. قال: فما لي حاجة سواها"(المصباح المضيء 2/50).
وكأنه يريد أن يوصلها إلى سليمان، بأنه لا يملك ما يملك من باع نفسه وماله وإليه، فلو كان له حاجة فإنما يطلبها ممن هو أغنى من سليمان، بل إن أبا حازم يخشى حتى من المصاحبة، خوفاً من الركون إلى الدنيا وبهرجها، فيقل تأثير الإنكار.
الأوزاعي يرفض الهدية:
وعندما وعظ الإمام الأوزاعي أمير المؤمنين المنصور، قال له المنصور "إلى أين؟ قال الأوزاعي: إلى الولد والوطن يأذن أمير المؤمنين إن شاء الله. قال: فقد أذنت لك، وشكرت لك نصيحتك، وقبلتها بقبولها، والله الموفق للخير والمعين عليها، وبه أستعين وعليه أتوكل، وهو حسبي ونعم الوكيل، فلا تخلني من مطالعتك إياي بمثلها، فإنك المقبول القول، غير المتهم في النصيحة، قال الأوزاعي: أفعل إن شاء الله، قال محمد بن مصعب فأمر له بمال يستعين به على خروجه، فلم يقبله، وقال لنا في ذلك غنى عنه، وما كنت لأبيع نصيحتي بغرض الدنيا كلها، وعرف المنصور مذهبه فلم يجد عليه في رده"(المصباح المضيء 2/133، 134).
طاووس يرفض الهدية:
جاء في ترجمة التابعي الحافظ طاووس بن كيسان عالم اليمن، والذي أدرك خمسين من الصحابة رضي الله عنهم، أن "محمد بن يوسف – أخو الحجاج- بعث إلى طاووس بسبعمائة دينار أو خمسمائة، وقيل للرسول: إن أخذها الشيخ منك، فإن الأمير سيحسن إليك، ويكسوك، فقدم بها على طاووس، فأراده على أخذها، فأبى، فغفل طاووس، فرمى بها الرجل في كوة البيت، ثم ذهب وقال لهم: قد أخذها.. ثم بلغهم عن طاووس شيء يكرهونه، فقالوا ابعثوا إليه فليبعث إلينا بمالنا، فجاءه الرسول، فقال: المال الذي بعث به الأمير إليك، قال: ما قبضت منه شيئاً، فرجع الرسول، وعرفوا أنه صادق، فبعثوا إليه الرجل الأول فقال: المال الذي جئتك به يا أبا عبد الرحمن، قال: هل قبضت منك شيئاً؟ قال: لا، ثم نظر حيث وضعه، فمد يده فإذا بالصرة قد بنى العنكبوت عليها، فذهب بها إليهم"( سير أعلام النبلاء 5/40، 41) وهذه الحادثة تؤكد أن معظم الهدايا التي تأتي من الكبراء إلى العلماء، إنما الهدف منها هو رشوتهم لإسكاتهم عن الإنكار، وهو السبب ذاته الذي يجعل العلماء يرفضون هذه الهدايا ويعفون عنها.
بين الأولين والآخرين
كان هذا أدب الأولين من الصالحين الصادقين، كانوا يعيشونه في أنفسهم ويربون عليه أولادهم وينشؤون عليه تلاميذهم كما جاء في نصيحة الغزالي لابنه: "لا تخالط الأمراء والسلاطين ولا ترهم لأن رؤيتهم ومجالستهم ومخالطتهم آفة عظيمة، ولو ابتليت بها دع عنك مدحهم وثناءهم، لأن الله تعالى يغضب إذا مدح الفاسق والظالم، ومن دعا لطول بقائهم فقد أحب أن يعصى الله في أرضه.
وقال له أيضا: "ولا تقبل شيئا من عطايا الأمراء وهداياهم، وإن علمت أنها من الحلال، لأن الطمع منهم يفسد الدين؛ لأنه يتولد منه المداهنة، ومراعاة جانبهم والموافقة في ظلمهم، وهذا كله فساد في الدين، وأقل مضرته أنك إذا قبلت عطاياهم، وانتفعت من دنياهم أحببتهم، ومن أحب أحدا يحب طول عمره وبقاءه بالضرورة، وفى محبة بقاء الظالم إرادة في الظلم على عباد الله تعالى، وإرادة خراب العالم، فأي شيء يكون أضر من هذا على الدين والعاقبة.
فلما ترك المتأخرون هذا التعفف وخالفوا مسلك الأولين، وطرقوا أبواب السلاطين، أهانوا العلم وهانوا في قلوب الخلق؛ فأفسدوا على أنفسهم دينهم وآخرتهم، وجرؤوا الأمراء والسلاطين عليهم، فخسروا الدنيا والآخرة، وفقد الناس الصادع بالحق الناصح لولي الأمر إلا من رحم الله.. وقد ذكر ذلك أبو حازم سلمة بن دينار كما روى البيهقي وابن عساكر عنه قال: "إن خير الأمراء من أحب العلماء، وإن شر العلماء من أحب الأمراء. وكانوا فيما مضى إذا بعث الأمراء إلى العلماء لم يأتوهم، وإذا سألوهم لم يرخصوا لهم.. وكان الأمراء يأتون العلماء في بيوتهم فيسألونهم، وكان في ذلك صلاح للأمراء وصلاح للعلماء. فلما رأى ذلك ناس من الناس، قالوا: ما لنا لا نطلب العلم حتى نكون مثل هؤلاء! وطلبوا العلم فأتوا الأمراء فحدثوهم فرخصوا لهم فخربت العلماء على الأمراء، وخربت، الأمراء على العلماء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
راجع: "وقفات تربوية من السيرة لعبد الحميد البلالي"