قضايا الأمة الإسلامية المصيرية معروفة؛ فمن قضية العدوان اليهودي المتوسع والمهدد لكيان الأمة ذاتها بأسلحة الدمار الشامل إلى الزحف الصليبي المتربص ليس فقط بأطرافها ولكن إلى قلبها، ومن تربص هندوكي يشهر هو الآخر أسلحة الدمار الشامل نحو الكتلة الإسلامية المجاورة إلى اجتياح غربي علماني تحت شعارات قديمة وجديدة من التحديث إلى العولمة، ومن التقدم إلى النظام العالمي الجديد وإلى اقتصاديات السوق، ومن ضياع للهوية والعقيدة ذاتها إلى ضياع لمفهوم الأمة الواحدة وتشرذمها إن لم يكن تصارُع أبنائها.
وإذا كانت قضايا الأمة معروفة واضحة فإنه يمكن القول كذلك إن الصحافة تتابعها وتلاحق تطوراتها على مدى ساحة الأمة الإسلامية ؛ فأين تكمن المشكلة إذن ؟
القضية هي أن الصحافة باعتبارها مهنة ومؤسسة لا تستطيع أن تخدم وتساند قضايا الأمة الحيوية الكبرى، وهي حتى في متابعتها لها تفعل ذلك من الجانب المضاد أي من الجانب الذي يسهم في التعمية على هذه القضايا وطرحها من المنظور الذي يخدم أعداء الأمة، ويشيع التضليل حول حقيقتها، ويبعد الجماهير الإسلامية عن فهمها الفهم الصحيح ودفعها نحو الوجهة الصائبة التي تحلها وتؤدي بها إلى خير الأمة.
والمشكلة الجوهرية التي تعترض سبيل مهنة الصحافة وتبعدها عن خدمة قضايا الأمة المصيرية أو عن تناولها على النحو الصحيح تنقسم إلى جزئين رئيسين:
أولهما: هو درجة الاستقلال التي تتمتع بها المهنة.
الثاني: وقوع المهنة تحت هيمنة العلمانية ليس فقط من ناحية المضمون الإخباري أو المنظور التحليلي؛ وإنما كذلك من ناحية المفاهيم الحاكمة للممارسات الصحفية.
والواقع أن الجانبين مترابطان؛ ففقدان الاستقلال للصحافة في عالمنا الإسلامي سواء كانت صحافة خاضعة للسلطات أم خاضعة لمصالح خاصة يصب في صالح العلمانية المسيطرة بوضوح أو من وراء ستار على شتى المؤسسات السلطوية أو الفاعلة في قطاعات واسعة في عالمنا الإسلامي.
ومن المفارقات أنه في بلدان إسلامية عديدة نجد أن صحافة الحكومة وصحافة المعارضة التي يقال عنها إنها تعارض توجهات الإعلام الحكومي تتفقان في ترويج الفكر والمفاهيم العلمانية نفسها وفي درجة رفض المنظور الإسلامي؛ حتى إن اختلف الطرفان حول قضايا جزئية وفرعية تظل مع ذلك داخل إطار المجال العلماني. وهكذا تصبح المشكلة الرئيسية التي تحول بين الصحافة وبين المعالجة الصحيحة لقضايا الأمة المصيرية هي تغلغل الفكر العلماني وفرضه في شتى جوانب العملية الصحفية من النقل والتغطية الخبرية إلى التعليق والتحليل بمستوياتهما المتعددة.
والقضايا المصيرية التي أشرنا إليها في أول هذه الكلمة تجد لها مكاناً بالفعل على صفحات الإعلام وبرامجه لكنه مكان مخطط ومعين سلفاً وواقع تحت منظور معين يؤدي في نهاية المطاف إلى إجهاض وإحباط الفهم الحقيقي لهذه القضايا وخدمتها ؛ كما يؤدي إلى إفساد أي محاولة لدفعها نحو الحل أو التقدم.
خذ مثلاً قضية الوحدة الإسلامية تجد الصحافة تتحدث عنها إما في صورة شعارات حماسية خالية من المضمون مما ينفر الناس ويشيع بينهم اليأس من إمكانية تحققها، أو بصورة تبعث الشك في هذه الوحدة، وتطرح بديلاً عنها ولو في طرح تمهيدي قضايا الوحدة الإقليمية والاقتصادية.
وفي قضية تجديد فكر الأمة وحيويتها تجد أن الطرح السائد في الإعلام المعلمن هو التجديد بمعنى التغريب وتحويل الإسلام إلى نسخة من مذاهب الغرب السائدة تحت ضجة المجاراة للعصر وما أشبه ذلك. وفي قضايا الغزو الصليبي للأمة سواء كان بالتبشير أو بالثقافة الغربية تجد الصحافة تنفي حدوث مثل هذا الغزو، وتتحدث عن تفاعل حضاري مزعوم، وتبشر بالحوار بين الإسلام والغرب متجاهلة أن هذا الحوار يجري في ظل عملية غزو مستمرة من الجانب الغربي ومؤسساته.
القضايا الحيوية للأمة إذن قد تكون حاضرة في الصحف لكن فقدان الاستقلال المادي والفكري ثم تغلغل المنظور والمفاهيم العلمانية في ذهن القائمين عليها (أو الذين يسمح لهم وحدهم ويرخص لهم وحدهم بالعمل فيها) يؤدي إلى المعالجة العكسية لتلك القضايا بما يجهضها أو يميعها إن لم يكن مصيرها التهميش أو الإهمال أما الصحافة الإسلامية فهي الآن في مشاكلها الخاصة المادية والفنية حتى الفكرية أعجز من أن تقاوم هذا التيار أو تمثل قوة مضادة ترده، وهذه بالطبع قضية أخرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد يحيى (البيان: 194)