دين الله عقيدة وشريعة: فالعقيدة هي الإيمانيات والمعتقدات، وهذه اتفق عليها كل المرسلين، فما من نبي إلا وقد قال لقومه (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره).
فعقيدة الأنبياء أجمعين هي توحيد رب العالمين: توحيده ربا خالقا، وإلها معبودا، وحكما مقسطا، لم تختلف في ذلك رسالاتهم على مر العصور وتتابع الدهور.
فهذا نوح قال الله عنه: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (لأعراف:59)
وقال عن هود: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) (هود:50)
وكذا صالح: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)(لأعراف: 73)
وهو ما قاله شعيب أيضا لقومه مدين: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (العنكبوت:36)
وهي دعوة إبراهيم أبي الأنبياء حين قال لأبيه وقومه: (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلا الَّذِي فَطَرَنِي) (الزخرف:26،27) وهو معنى لا إله إلا الله
وهذا يوسف يقول لمن معه في السجن: (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)(يوسف: من الآية39)"
وقد جمع الله ذلك كله في قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:25)
فاتفقت رسالات المرسلين على توحيد رب العالمين، ودعوة الناس لعدم الإشراك به في ربوبيته فلا يدعى معه غيره، ولا يسأل سواه؛ فالملك كله بيديه والأمر كله إليه. وكذلك لا يشرك به في إلوهيته فلا يخاف ولا يرجى إلا الله، ولا يذبح ولا ينذر إلا له، فلا رب غيره ولا معبود سواه.
إخوة لعلات
ومع العقائد كانت الشرائع التي تنظم حياة الناس فتحل لهم ما يحله الله، وتحرم عليهم ما حرمه، وتأمرهم بما يحب الله، وتنهاهم عما يبغضه الله.
ولئن كان النبيون قد اتفقوا في العقائد والإيمانيات إلا أنهم اختلفت شرائعهم بحسب حاجة الناس في أزمانهم وحسب ما ينصلح به الحال في وقتهم؛ ولذلك قال تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً)(المائدة: 48)، وقال: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ)(الحج: 34)، وقال أيضا: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ)(الحج: من الآية67)، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: [الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد] (رواه البخاري)، بمعنى أن عقيدتهم واحدة وشرائعهم متعددة.
وكما أمر الله الناس أن يتبعوا أنبياءهم في عقيدتهم والإيمان بالله ربا خالقا، وإلها معبودا، كذلك أمرهم أن يتبعوا شرائعهم ويؤمنوا بالله حكما مقسطا ومشرعا واحدا.
إن إثبات الحاكمية والسلطان والتشريع لله وحده وإفراده بذلك لا يقل أهمية بحال عن إثبات الربوبية والإلهية له وإفراده بها، بل هذه من تلك.. فالرب الذي خلق ورزق وأحيا وأمات وملك ودبر، ومازال كذلك ولن يزال، يجب أن يكون هو الإله المعبود وحده، وهذا الإله هو الذي يستحق وحده أن يأمر فيطاع ويشرع فلا يعصى. (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (لأعراف:54)
وقال تعالى في سورة القصص: (وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص:88)
وقال يوسف عليه السلام: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ، مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (يوسف: 39، 40)
وكلام سيدنا يوسف واضح جدا في كون الحكم لا ينبغي أن يكون إلا لله، فهو أسلوب حصر وقصر بما وإلا، فلا حكم لأحد إلا لله سبحانه.
وقوله: (إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) يدل على أن التسليم لله في حكمه نوع من أنواع العبادة من أشرك فيها مع الله غيره فهو مشرك، كما أن من أشرك بالله في ربوبيته غيره بسؤال أو دعاء أو عبد معه سواه بذبح أو نذر أو أي نوع من أنواع العبادة كان مشركا بالله العظيم.
وإنما كان هذا شركا بالله لأن هؤلاء رفضوا قوامة الله وسلطانه، وقبلوا قوامة غيره وسلطانهم فتنكبوا عن معنى الإسلام الذي هو الاستسلام الكامل والاتباع التام والطاعة الكاملة لله ولأمره ولحكمه.
إن القرآن الكريم كما قرر موضوع الربوبية والإلهية في وضوح تام وبيان شاف كاف، كذلك جاء في هذا الأمر "استحقاق الله بالانفراد بالحكم" آيات بينات، وحجج واضحات تبلغ عقل كل سامع حتى لا يكون هناك عذر لمعتذر أو فرصة لتأويل متلاعب أو حجة لمخالف معاند.
فأمر الله نبيه أن يحكم بين الناس بما أنزل الله فقال: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ )(المائدة: 48)، وقال: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ)(المائدة: من الآية49)، وقال: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الجاثـية:18)
ثم أمر الناس أن يطيعوه عليه السلام في كل أمره، وأن يردوا اختلافهم، إذا اختلفوا، إلى الله وإلى رسوله دون غيرهما.. فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء:59)
وقد اتفق أهل العلم على أن الرد لله أي لكتابه، وللرسول أي إليه في حياته أو إلى سنته وشرعته بعد وفاته.
ونفى الله الإيمان عن من لم يحتكم لأمر رسوله وحكمه الذي هو حكم الله تعالى، بل ولا يكون في نفسه أي حرج من هذا الحكم بل ويسلم له تسليما: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65)
وأخبر سبحانه أن كل حكم غير حكمه إنما هو جاهلية واتباع للهوى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50)، (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (القصص:50)
واتباع الهوى أصل الضلال كما قال تعالى لداود عليه السلام: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (صّ:26)
إن عدم قبول أمر الله وشرع الله، والاعتراض على هذه الشريعة الغراء دليل على مرض قلوب من يفعلون ذلك، وهذا ما حكاه الله عنهم في كتابه القويم فقال سبحانه: (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ، وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ، أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (النور:47،52)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً ، فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) (النساء:60،63)
وما يزال المرض يتمكن من قلوبهم ويطفح على ألسنتهم حتى يخرجوا من دين الله بالكلية ويرتدوا مرة أخرى إلى حمأة الجاهلية كما قال عز من قائل: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ، فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) (محمد:26، 28)
إن الله أنزل شريعته ليحكم بها في ملكه وبين خلقه، وإنما أنزلها ليسعد بها أصحابها وأتباعها، ويصلح لهم أمر دنياهم وأخراهم، فمن قبل من الله أمره فلن يضل في الدنيا ولن يشقى في الآخرة، وإنما الضلال والشقاء على من أعرض عن شرعه وهديه قال تعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً ، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ، وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) (طـه:123،127)