ذكر الإمام الخطيب البغدادي في كتابه العظيم ـ تاريخ بغداد" في ترجمة القاضي أبي يوسف (يعقوب بن إبراهيم ـ المتوفى سنة182) تلميذ الإمام أبي حنيفة رحمهم الله أجمعين، عن أبي يوسف وهو يحكي عن نشأته قال: "كنت أطلب الحديث والفقه وأنا مقل رث الحال، فجاء أبي يوماً وأنا عند أبي حنيفة، فانصرفت معه فقال: يا بني لا تمدن رجلك مع أبي حنيفة فإن أبا حنيفة خبزه مشوي (يعني في سعة وغنى) وأنت تحتاج إلى المعاش.. فقصرت عن كثير من الطلب وآثرت طاعة أبي، فتفقدني أبو حنيفة وسأل عني، فجعلت أتعاهد مجلسه.. فلما كان أول يوم أتيته بعد تأخري عنه قال لي: ما شغلك عنا؟ قلت: الشغل بالمعاش وطاعة والدي فجلست، فلما انصرف الناس دفع إلي صرة وقال: استمتع بهذه. فنظرت فإذا فيها مائة درهم، فقال لي: الزم الحلقة وإذا نفذت هذه فأعلمني، فلزمت الحلقة، فلما مضت مدة يسيرة دفع إلي مائة أخرى ثم كان يتعاهدني، وما أعلمته بخلّة قط ولا أخبرته بنفاذ شيء، وكان كأنه يُخبَر بنفاذها حتى استغنيت وتمولت".
وفي كتاب "مناقب أبي حنيفة" للموفق الخوارزمي زيادة، قال أبو يوسف: "فلزمت مجلسه 29 سنة حتى بلغت حاجتي، وفتح الله لي ببركته وحسن نيته ما فتح من العلم والمال، فأحسن الله عني مكافأته وغفر له".
وبعد أن ذكر الخطيب هذه القصة مباشرة ساق قصة أخرى في نشأة أبي يوسف، ولكنه ساقها بصيغة التمريض والتضعيف فقال الخطيب رحمه الله: "وحُكِىَ أن والد أبي يوسف مات وخلف أبا يوسف طفلاً صغيراً وأن أمه هي التي أنكرت عليه حضوره حلقة أبي حنيفة.
ثم لزمته فنفعني الله بالعلم ورفعني حتي تقلدت القضاء، وكنت أجالس الرشيد وآكل معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام قدم إلي هارون فالوذج، فقال لي هارون: يا يعقوب، كُلْ منه فليس كل يوم يعمل لنا مثله. فقلت: وما هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذا "فالوذج بدهن الفستق" فضحكت، فقال لي: مم ضحكت؟ فقلت: خيراً.. أبقى الله أمير المؤمنين قال: لتخبرني - وألح علي - فخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها، فعجب من ذلك وقال: لعمري إن العلم ليرفع وينفع ديناً ودنيا، وترحم على أبي حنيفة، وقال: كان ينظر بعين عقله مالا يراه بعين رأسه".
فهذا الإمام العلم القاضي الشهير والحافظ الكبير والعلامة الفقيه النحرير "شريك بن عبد الله" الذي ارتبط به وصف القضاء لكثرة ما قضاه فيه، يحكي عنه يحيى بن يزيد، كما جاء في تاريخ بغداد، يقول يحيى: "مر شريك القاضي بالمستنير بن عمرو النخعي فجلس إليه فقال: يا أبا عبد الله من أدبك؟ قال: أدبتني نفسي والله، ولدت بخراسان ببخارى فحملني ابن عم لنا حتى طرحني عند بني عم لي بنهر صرصر، فكنت أجلس إلى معلم لهم، فعلق بقلبي تعلم القرآن فجئت إلى شيخهم فقلت: يا عماه! الذي كنت تجرى علي ههنا أجره علي بالكوفة أعرف بها السنة وقومي، ففعل، قال: فكنت بالكوفة أضرب اللبن وأبيعه وأشتري دفاتر وطروساً فأكتب فيها العلم والحديث، ثم طلبت الفقه فبلغت ما ترى.
فقال المستنير بن عمرو لولده: سمعتم قول ابن عمكم، وقد أكثرت عليكم في الأدب ولا أراكم تفلحون فيه، فليؤدب كل رجل منكم نفسه، فمن أحسن فلها ومن أساء فعليها.
من لم ير العلم أغلى .. .. .. من كل شيء يصاب
فليس يفلــــــح حتى .. .. .. يُحثَى علـــيه التراب.
ومن يصطبر للعــــلم يظفــــــر بنيله .. .. .. ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل
ومن لم يذل النفس في طلب العلا .. .. .. يســـيرا يعش دهـــرا طويلا أخــا جهل.