الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
اختيار هذا الخط
الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
إسرائيل في النظام العالمي.. الإدراك المطلوب لتوفير عناصر المجابهة
ما زال الوعي العربي العام السائد يُغلب الاعتبار الأيديولوجي في توصيفه المكانة التي تحتلها إسرائيل في العالم . والشكل الأول الذي يستند إليه يركز على تغلغل الحضور اليهودي في المؤسسات العالمية بكل أشكالها ، بما يفترض امتلاك إسرائيل ، عبر الرابطة الدينية ، قدرة على التحكم بمواقف وقرارات هذه المواقع لصالحها ، أي ما يشبه عمل اللوبي الدائم والمتوزع على كل أرجاء العالم وقطاعاته , فيصبح هذا رهينة إسرائيل عبر الصهيونية العالمية وما يسمى " النفوذ اليهودي " ، اللذين يتآمران في كل مكان ويفرضان على المؤسسات السياسية والعالمية والحكومات والشركات الكبرى ما يلائم إسرائيل ، وتصبح تلك كلها مغلوبة على أمرها أو تكاد .
أما الفرع الآخر الكبير من تغليب الاعتبار الأيديولوجي في تفسير مكانة إسرائيل العالمية ، فقد غادر هذا التصور الذي يراه تبسيطيًا ومتخلفًا . وهو يشدد على تبادل المنافع ، فيشير إلى أن إسرائيل تشكل موقعًا غربيًا متقدمًا داخل المنطقة العربية ، يعمل على تأمين مصالح الهيمنة الغربية فيها ، ونوعًا من الحارس العسكري والاقتصادي المعطل لإمكانات التطور عبر استنفاد الموارد التي تتجه بالدرجة الأولى نحو تلبية حاجات البناء العسكري وخوض الحروب المتتالية ، والمعطل لإمكانات الانفتاح والتكامل السياسي والاقتصادي العربي ، لكونه حرف الاهتمامات والهموم عن سياقها الطبيعي وفرض أولوية عامة مصطنعة ما زالت آثارها المرهقة تتضخم وتفعل فعلها منذ أكثر من خمسين عامًا . ويُغلب هذا الرأي اعتبار إسرائيل مجرد أداة من أدوات الاستعمار ، يمتلك شكلاً خاصًا .
سيكون من الإجحاف إنكار ما لهذين التصورين من مرتكزات وجيهة . بل ربما كان من الضروري التأكيد على مبلغ تداخل عناصرهما ، فلا ينفي واحدهما الآخر ، بمعنى أنهما ، كليهما ، موجودان وفاعلان في الواقع . إلا أن هذا الواقع لم يتوقف أو يتجمد عندهما . كما أنهما لم يعودا ، اليوم ، يلخصانه .
فالمسألة الرئيسية المطروحة هي تعيين الموقع المحدد الذي تحتله إسرائيل ضمن النظام العالمي ، والوظائف التي تضطلع بها الآن ، أو تلك التي تتهيأ لها مستقبليًا ، سواء في ما يخص المنطقة العربية مباشرة أو في خصوص دوائر إقليمية أوسع.
فمن غير المعقول ألا يُتنبه إلى التغييرات المتعلقة بإسرائيل ، مكانة ووظيفة ، فيما يتم افتراض وإدراك التغييرات القائمة على آليات عمل النظام العالمي منذ انتصار النموذج الرأسمالي ، نظامًا وقيمًا ، والمعبر عنه بانهيار الثنائية القطبية وانفلات المجال أمام سطوة الولايات المتحدة ، السياسية والثقافية ، وأمام ما يسمى التحرير التام للتبادلات الاقتصادية في العالم ، والذي عبر عنه نشوء منظمة التجارة العالمية في منتصف التسعينيات كخلف للغات ، واتساع نطاق عملها المضطرد مذاك ، ليشمل كل قطاعات الحياة ، ولتتدافع إلى الانضمام إليه كل بدلان العالم ، وكان آخرها الصين في مؤتمر الدوحة الأخير.
تبدو إسرائيل متلائمة تمامًا مع متطلبات هذا الهيكل ، بل هي موجودة في نسيج العديد من مواقعه وجودًا يمكن وصفه بالعضوي ، فالشركات العادية للجنسيات التي تقوم على التفاعل بين دينامية رأس المال والابتكار التقني واقتحامية التوظيف والاستثمار اللذين ترعاهما العلاقات العامة ، تتوافق مع ميزات تتوافر عليها إسرائيل تكوينًا ، وتعمل في الوقت نفسه على تعزيزها وتطويرها وملاءمتها بصورة مستمرة .
تحتل إسرائيل مكانة متميزة في كل ما يمت بصلة إلى التكنولوجيا العليا الجديدة فهي تتفوق في التقنيات العائدة إلى تطوير قطاع الاتصالات والصورة كما في قطاع التكنولوجيا العسكرية . كذلك تحتل مكانة متقدمة في ما يخص تقنيات قطاع البيوتكنيك أو كل ما يمت إلى علوم الأحياء والصيدلة والطب ، كذلك في ما يخص تقنيات معالجة المياه . وتمثل الصناعة المتعلقة بالتكنولوجيا الجديدة العليا 50 في المائة من إجمالي الصناعة الإسرائيلية ، كما تمثل 50 في المائة من إجمالي قيمة صادراتها الصناعية . وجدير بالمعرفة أن إسرائيل شجعت الهجرة من الاتحاد السوفياتي السابق ، لكل من كان من أصل يهودي أو رضي ادعاء ذلك ، فوصل إليها في أوائل التسعينيات أربعون ألف حائز على الدكتوراه وهؤلاء كانوا في أساس القفزة التي عرفها قطاع البيوتكنولوجيا الإسرائيلي الذي بات من بين الأوائل في العالم.
وتطور إسرائيل تقنيات وبرامج تتعلق بالهواتف النقالة والإنترنت والكمبيوتر والفيديو والملاحة الجوية والتحكم عن بعد . وقامت شركات عالمية كبرى بشراء معدات وتطويرها منها ، أو هي أبرمت معها اتفاقات شراكة وتعاون.
ويمكن ذكر شركات مثل " الكاتيل " الفرنسية أو " نوكيا " الفنلندية أو شركة " باتيه للأفلام " الفرنسية ، والعديد العديد من برامج الكميبوتر للاستعمال الخاص ، وأصبحت شركة " انتيل " المستخدم الأول لليد العاملة في الصناعة المتقدمة في إسرائيل.
ويقول تقرير صادر عن مجلس الشيوخ الفرنسي : إنه سيتم فهم أفضل للجانب الاقتصادي من اتفاق الشراكة بين أوروبا وإسرائيل ، إذا أُخذ في الاعتبار أن لإسرائيل اقتصادًا متقدمًا من جهة ، وأن التبادلات المعقودة مع الاتحاد الأوروبي تتسم بالكثافة الكبيرة من ناحية ثانية . ويقول التقرير : إن مبدأ الاتفاقات المبرمة يتم على قاعدة التساوي في مستوى الاقتصاديات . أي أن الاقتصاد الإسرائيلي في مستوى اقتصاديات البلدان الأوروبية ، وهو لذلك لا يستفيد من معاملة قائمة على المساعدة أو الدعم ، بل يتم التعاون على مبدأ الشراكة . وهو الواقع الذي سمح لإسرائيل أن تكون شريكًا في البرنامج - الإطار الخامس للبحث والتنمية الأوروبي (PCRD) المنطلق في مايو عام 1999م والممتد على أربع سنوات.
ويسمح هذا البرنامج للجامعات الإسرائيلية ولمراكز الأبحاث وكذلك للشركات الصناعية المختلفة الاشتراك في برامج البحث والتنمية العائدة للمفوضية الأوروبية . وكانت إسرائيل اشتركت في البرنامج الرابع ، وهي البلد غير الأوروبي الوحيد الذي يحوز على هذه الوضعية ، التي مُنحت له بناء على تقويم إمكانات الجامعات ومعاهد الأبحاث والصناعات الإسرائيلية في مجال التكنولوجيا المتقدمة.
وفي إطار البرنامج الرابع ، تم إبرام عقود لأربعين مشروعًا مشتركًا فرنسيًا - إسرائيليًا على سبيل المثال . أما في إطار البرنامج الخامس ، فتقدمت إسرائيل بمقترحات تخص خمسمائة مشروع أمام لجان الاتحاد الأوروبي المختلفة ، وإسرائيل شريك في البرنامج الفضائي الأوروبي أيضًا .
وأخيرًا ، وكتفصيل لا يخلو من الدلالة ، انتخب منذ أشهر الرئيس السابق لبنك إسرائيل الدكتور يعقوب فرنكل رئيسًا لشركة " ميريل لانش " العملاقة . ومنذ أيام انعقد في ضاحية لوبورجيه الباريسية صالون التقنيات العائدة للأمن والمراقبة ومكافحة التظاهر والمسمى " ميليبول " . واحتلت إسرائيل ، عبر واحد وعشرين شركة كانت حاضرة في المعرض ، مكانة متميزة . وجرت تظاهرات عامة لقوى وجمعيات فرنسية مناصرة لنضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه الوطنية أمام صالات المعرض ، استنكارًا للسماح لجهة تمارس القتل اليومي والجماعي ، وتتجاهل القرارات الدولية ، بالحضور وعرض منجزات تطور آلة قمعها للبيع على العالم.
فهل تحفز هذه الشذرات على التنقيب لتوفير المعطيات العائدة إلى إسرائيل وموقعها في العالم بصورة كاملة ومنهجية ؟ وهل تحفز حتى نعيش الجهد المطلوب ، والبنى الملائمة له من أجل توفير أدوات المجابهة مع إسرائيل وشروط النصر عليها ، أم نستمر في اتباع أحد سلوكين ؛ واحد يعود أبديًا إلى الأسس ويجادل في المحرقة وشعور الذنب الغربي وما إلى ذلك ، وآخر يخفي عمدًا الوقائع مخافة الإحباط ، أو لتهوين أمر إسرائيل ، " بينما تستمر الأعمال فيما الأزمة قائمة " كما يقول تحديدًا أحد التقارير الإسرائيلية الاقتصادية الصادرة أخيرًا . وربما كان يجب إضافة عنصر ثالث إلى الأولين ، عنصر مشترك ، هو مقدار غير قليل من الجهل الذي لا يعوضه ارتفاع نبرة الكلام.