في كتابه الماتع "هموم داعية" كتب الشيخ محمد الغزالي ـرحمه الله ـ مقالا في غاية الأهمية مع غاية الروعة تحت عنوان "على مسار الدعوة" وضح فيه أسسا للداعية ينبغي أن يجعلها قواعد، ومنهجا ينبغي أن يتخذه طريقا إذا أراد أن تؤتي دعوته ثمارها ويجتني الناس بعد ذلك أكلها... يقول رحمه الله:
نحن ندعو ربنا في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم، والصراط المستقيم ليس خطًّا وهميا ينشأ عن هوى الأفراد والجماعات، وإنما هو حقيقي يرسمه من الناحية العلمية: القرآن الكريم، ومن الناحية العملية: الرسول الذي حمل الوحي وطبقه وربى جيلا من الناس على عقائده وشرائعه.
والتاريخ الإنساني يشهد بقوة ووضوح أن قافلة الإسلام لزمت هذا الصراط حينًا من الدهر، وأنها قدّمت للعالم نماذج حية في بناء الخلق والمجتمع والدولة.
نعم .. كان السلف الأول عابدين لله، ذوي بصائر ترنو إليه وتستمد منه، وتنضح بالتقوى والأدب في كل عمل يباشرونه.
وكانوا – إلى ذلك- خبراء بالحياة يسوسونها بالعدل والرحمة، ويقمعون غرائز التطلع والحيف، ويرفضون ما سبق الإسلام في ميدان الحكم من فرعونية وكسروية وقيصرية، كما يرفضون ما سبق الإسلام في ميدان التديّن من شرك أو تجسيد أو تعطيل.
إن الصراط المستقيم ليس وقوف فرد في المحراب لعبادة الله وكفى، إنه جهاد عام لإقامة إنسانية توقر الله، وتمشى في القارات كلها وفق هداه، وتتعاون في السرّاء والضرّاء حتى لا يذل مظلوم، أو يشقى محروم، أو يعيث في الأرض مترف، أو يعبث بالحقوق مغرور.
السلف هم القدوة
وقد وقعت خلال القرون الطويلة انحرافات دقيقة أو جليلة! وقبل أن نتفرس في هذه الانحرافات ونتحدث عن مداها نريد أن نقرر حقيقة مهمة: إن السلف الأول وحدهم هم مصدر الأسوة، وما أجمل ما جاء عن ابن مسعود –رضى الله عنه- حين قال: "من كان مستنّا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة! أولئك أصحاب محمد (صلى الله عليه و سلم) كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم على أثرهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم".
إن بعض الذين ضاقوا بالانحرافات المعاصرة في العالم الإسلامي فكروا في العودة إلى الأمس القريب، أو إلى بضعة قرون مضت! فقلت لهم: لا.. مثلنا الأعلى في القرن الأول وحده، ففي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه و سلم): "إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ".
معنى الاقتداء
والاقتداء بداهة ليس في ركوب الخيل والإبل، والحرب بالسيف والرمح!
الاقتداء في التجرد والخشية وإيثار الآخرة!! أما تأمين الحقيقة فقد استحدثت له وسائل مدنية وعسكرية لا حصر لها، ويجب على حملة الرسالة إتقان هذه الوسائل..وقد بيّن أولو العلم ما يجب التزامه شكلا وموضوعًا من شئون العبادات المحضة أما غيرها فنسق آخر.
العدل هو العدل، ولكن ضمانات وصوله إلى ناشديه تكثر وتتغاير على مر العصور. والشورى هي الشورى بيد أن ضمانات التعبير عن الرأي وضمانات الوقوف أما الاستبداد تختلف باختلاف البيئات والملل.
وفي عصرنا هذا قامت أجهزة للدعاية تخدم شتى الملل والنحل بأساليب فاتنة، فإذا لم نسبقها ونسبق، ظلمنا ديننا، وأضعنا حقنا، وكان علينا وزر المفرطين.
الانحراف عن الصراط المستقيم
الصراط المستقيم إذن معروف بالعقل والنقل فلماذا يقع الانحراف عنه؟
والجواب: طبيعة البشر! إننا نخطئ وليس في ذلك عجب! ولكن العجب أن يبقى الخطأ وأن نُصرَّ عليه!!
والأعجب من ذلك أن يمضي البعض في طريق الانحراف وهو لا يدري! أو لعله يحسب نفسه على صواب..
وميلاد الانحراف خلقيّا كان أو اجتماعيّا أو سياسيّا يبدأ من نقطة ما، ثم يسير مشكلا مع الخط المستقيم زاوية حادة، فإذا قست المسافة بين خط الزيغ والخط المستقيم وجدتها قدر إصبع، ثم تمتد فتصير قدر شبر، ولا يزال الزمان يطيل المسافة بين الخطين حتى تصير قدر ميل أو أميال، ويكون البعد عن الحق شاسعًا!!
والانحراف المعيب لا يقع في مكان واحد بل قد تتعدد أسباب الميل، وتكثر المتعرجات التائهة، وتنحل عرا الإسلام عروة عروة بالصمت الجبان وترك الفتن تمشي حبلها على غاربها، بل إن معالم الصراط المستقيم تكاد تخفى مع توارث العوج وذيوع الجهل لولا أن الله سبحانه تعهد دينه بمن يجدد أمره، ويجلو بريقه، ويذود عنه الآفات..
إذا ذكرت كلمة "الدين" سبق إلى فكر الناس ما وراء المادة والبحوث الغيبية المحيرة في هذا المجال!!، فهل الأمر كذلك عندنا؟ كلا.
إن الفاتحين الأوائل ما أثاروا بين الشعوب قضية من هذا الطراز، لقد انطلقوا باسم الله الواحد ينقلون الجماهير من الظلمة إلى النور، من الظلم إلى العدل، من الخرافة إلى الحق فشغلوا الناس برؤية الميزان الذي أقاموه لكفالة معاشهم ومعادهم عن بحوث ما وراء المادة.
الكلام في العقيدة موجز مجمل: (اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهَ الأَسمَاءُ الحُسنَى) (طه:8)
والتفاصيل أعمال صالحة تبدأُ من إقام الصلاة وتنتهي بتنظيف الطرق! وتقصي من الحياة العامة أسباب الشكوى والهوان: (لَقَد أَرسَلنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنزَلنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسطِ)( الحديد:25) .
ما ينبغى أن يهتم به العقل الإسلامى اليوم
كان السلف الذين حملوا الإسلام قديًما واقعيين يعرفون مراد الله بذكاء وينفذونه بدقة، والإسلام – كما نعرفه من كتاب ربنا وسنة نبينا- فطرة سليمة لا فطرة ملتاثة وتعاليم يعيها أولو الألباب لا أولو الثقافة القاصرة والأحكام البلهاء.
وقد أحس ورثة المدنيات القديمة أنهم أمام عقل أذكى من عقولهم، وخلق أنبل من أخلاقهم، وبر بالشعوب أوسع من برهم، وأدركوا أن صفحتهم يوم تطوى، فلكي يرى العالم صفحة جديدة أملا بالرحمة والعدل يخطها أولئك الذين رباهم محمد (صلى الله عليه و سلم).
فهل كذلك الداعون إلى الإسلام في يوم الناس هذا؟
ــــــــــــــــ
انظر كتاب "هموم داعية" لمحمد الغزالي