تعرضنا في مقال سابق عن أهداف الإعلام الإسلامي وغاياته، وذكرنا أن له أهدافا عقائدية وثقافية واجتماعية وسياسية وعسكرية جهادية وله أيضا أهدافه الترويحية الترفيهية.
وإذا كانت هذه هي أهداف الإعلام الإسلامي فلابد لتحقيق هذه الأهداف والوصول لتلك الغايات من إيصالها للناس واختيار أساليب مناسبة تتوافق مع الأهداف النبيلة التي يسعى الإعلام الإسلامي لتحقيقها.
والمتتبع للإعلام الإسلامي الحقيقي يعلم أن له حسن مداخله إلى النفوس البشرية بأساليبه المتعددة المتنوعة، المشوقة الجذابة، المقنعة المؤثرة، المتصفة بصفة المعاصرة والصلاحية لكل زمان ومكان، بل إنها أحد خصائصه التي لم يرق ولن يرق إليها أي إعلام معاصر، وقد أورد بعضها الأستاذ عبد الله الوشلي في كتابه "الإعلام الإسلامي في مواجهة الإعلام المعاصر" وأشار إلى أن هذه الأساليب التي يذكرها هي على سبيل المثال لا الحصر، وأنها مستمدة من واقع القرآن الكريم المصدر الأول في التشريع الإسلامي والسنة النبوية المصدر الثاني.. ومن هذه الأساليب التي ذكرها:
1- البيان المعجز: لقد جاء القرآن الكريم كتابًا عربيًا مبينًا يتحدث إلى الناس بلغة العرب، ولكنه جاء بأسلوب معجز تحدى به المعاندين والمتكبرين أن يأتوا بما يماثله في نصاعة التعبير وقوة البيان ولا يزال هذا التحدي المعجز قائمًا حتى اليوم، وسيبقى قائمًا إلى يوم يبعثون.
2- التنوع في الأداء القرآني: فالقرآن في حقيقته تركيب عجيب في بناء آياته وفي الموضوعات والقضايا التي يتناولها من خلال وعظه وتعليمه ومحاوراته التي يرد بها على المعترضين أو يعقب بها مؤيدًا أو منددًا أو مبشرًا أو منذرًا، وفي وسع القارئ أن يستعين بالدراسات الكثيرة التي تناولت ظاهرة الإعجاز القرآني من هذه الناحية.
3- الواقعية في الحوار: والمقصود بالواقعية هو أن وحي السماء قد علمنا مواجهة الأحداث والوقائع حين حدوثها ذلك أن الفكرة النابعة من المواجهة تتصف بالحرارة والحيوية وتتميز بقدرة فائقة على التأثير في النفوس، ومما يلفت النظر أن الأفكار والموضوعات التي تبقى في حيز النظريات غير قابلة للتطبيق أو التي لا تتهيأ لها الظروف الملائمة لتطبيقها تفقد تأثيرها في النفوس وتتحول إلى جملة من الأفكار المترفة التي لا تصلح إلا لتقضية السهرات في الليل أو لملء أوقات المترفين من المثقفين، وهذا هو السر في القرآن الكريم، قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم منجمًا، وبتعبير آخر كانت السور أو الآيات تنزل استجابة لحادث معين أو جوابًا عن سؤال معين أو شرحًا لموقف من المواقف، ومن هنا يتبين أن استباق الأمور والقفز من فوق الأحداث لا يتفقان مع منهج المعاصرة في المحاورة والإعلام والمناقشة التي جاء بها القرآن الكريم، وهذا هو الذي يفسر سقوط الأفكار والفلسفات والدعوات الأرضية التي لا تتصل بالحقائق والوقائع المعاشة عند الناس في كل عصر.
4- التزام الصدق: هذه الصفة بالغة الأهمية في الإعلام الناجح وفي الدعوة إلى الله فإن تحرى الحقائق والوقائع والالتزام بروايتها، كما وقعت هي الضمانة الأساسية للفوز بثقة الناس الذين هم غرض المادة الإعلامية أو هدف الدعوة إلى الله، وليس أدل على أهمية الصدق وتحري الحقيقة في الإعلام من تاريخ الوقائع الإسلامية نفسها، لقد أثبتت مجريات التاريخ الإسلامي أن الأكاذيب والأساطير التي وجهت بها الدعوة الإسلامية قد سقطت كلها أمام الاستقامة والطهارة في مناقب أصحاب الدعوة إلى الله.
5- المواجهة الصريحة وتسمية الأشياء بأسمائها: فكل تسمية تتم على حساب العقيدة والشريعة في سبيل الحصول على مكاسب وقتية هي في الحقيقة جناية على العقيدة والشريعة في وقت معًا، ولنا فيما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المواقف ما يؤكد هذا الرأي، ولاسيما يوم أن رفض التسوية التي عرضت عليه من قبل قريش بواسطة عمه أبي طالب فقال قولته الخالدة: (والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه).
6- فعالية السلوك: لوحظ أن القرآن الكريم قد ركز تركيزًا شديدًا على الجانب الخلقي عند الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتبر أن نجاح الدعوة إلى الله موصول في جانب كبير من سلوكه عليه الصلاة والسلام، فقد ورد فيه قوله عز وجل: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران:159]، ويقول في مكان آخر: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4]، وفي مكان ثالث يصف القرآن أخلاق عباد الرحمن فيقول عز من قائل: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً}[الفرقان:63، 64] إلى آخر سورة الفرقان. لكن روح الإسلام عند عباد الرحمن ليست روح الاستسلام؛ فقد ورد في مكان آخر قوله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}[الفتح:29].
7- الاهتمام بكل صغيرة وكبيرة حتى لا تترك أي ثغرة في بناء الدعوة إلى الله: إن كل من يتلو القرآن الكريم يتبين له أن الحوار يتناول كل الأحداث والمواقف وكل الناس من كل الطبقات والفئات ابتداء من المشرك الكبير حتى المؤمن الفقير، وابتداء من الوفود الكبيرة التي تحاور وتناقش ومن كبير الخزرج عبد الله بن أبي الذي كان على راس المنافقين حتى المستضعفين الذين بقوا على كفرهم أو نفاقهم متابعة لكبرائهم، والقرآن لا يتردد في أي أسلوب من أساليب البيان، ولا يستحي أن يضرب أي مثل من الأمثلة في سبيل خدمة الدعوة إلى الله.
8- الأخذ بأسلوب الاستيعاب الإعلامي: والمقصود بالاستيعاب هنا هو أن القرآن الكريم قد أخذ بطريقتين أساسيتين في الأداء لما لهما من أثر بالغ في تحقيق هذا الاستيعاب.
الأولى: طريقة التنويع في التعبير بحيث يتم التناغم بين المبنى والمعنى، فإذا كان المعنى شديدًا قاسيًا كان المبنى شديدًا قاسيًا أيضًا والعكس بالعكس.
الثانية: طريقة التكرار في الأداء، والمقصود بالتكرار هو القيام بعملية الإيحاء المستمر وهي العملية التي يتكرر بها المعنى نفسه بعبارات مختلفة تجنبًا للإملال وقصدًا إلى تعميق التوعية بالمعنى المقصود منه.
9- تناول الحقائق العلمية المسلمة: وبتعبير آخر تقديمها بالطريقة التي تتفق مع الفطرة بحيث لا تتعارض مع البحوث التفصيلية اللاحقة، لاسيما وأن القرآن ليس كتابًا علميًا بالمعنى الذي نعرفه اليوم، لكنه لم يورد من الحقائق العلمية إلا ما هو مسلم به، وفي الحدود التي يستوعبها عقل الإنسان في كل عصر من العصور.
10- الدعوة إلى اعتماد أفضل أساليب القول والأداء في ممارسة الإعلام ودعوة الآخرين: والتي تتمثل في الآتي:-
(أ) القول الحسن: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً}[البقرة:83].
(ب) اللين في القول والخطاب: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[طـه:44]، {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران:159].
(ت) البصيرة في الأداء والتوصيل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}[يوسف:108].
(ث) الحكمة في العرض، واختيار الموعظة الحسنة في الموضوع، والجدال الشريف العفيف المتمثل بغاية الوصف بالحسن: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل:125].
(ج) اللفتة المثيرة للانتباه: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يفعلها من ذلك ما ورد في حجة الوداع حين خطب الناس فقال: (أي يوم هذا؟ أي بلد هذا؟ أي شهر هذا؟) والناس لا يردون عليه إلا بقولهم: الله ورسوله أعلم. ثم يقول بعد ذلك: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذه في شهركم هذا...) الحديث.
تلك إشارات ولفتات لأهم أساليب الإعلام الإسلامي، كما دل عليها القرآن وبينتها السنة النبوية، وهي أساليب يلزم رجال الإعلام الإسلامي بالالتزام بها وتحويلها إلى واقع يتعايش معه الناس من خلال التلقي والأخذ، وهي بحق تحقق أرقى وأفضل ما وصل إليه الإعلام المعاصر الذي فقد الانضباط بالمحتوى والالتزام بالأخلاق وتحرر من قيود الفضائل والآداب، فما أحوج المسلمين اليوم وبخاصة رجال الإعلام منهم أن يفهموا دينهم ويتعرفوا على تعاليم ربهم حتى يقدروا على إبلاغ رسالة الله في الأرض ودعوة الله إلى البشر والله الهادي إلى سواء السبيل.
وإذا كنا قد أوضحنا جانبًا من أهمية الإعلام وأسسه ومبادئه وأهدافه ودعايته، واستعرضنا كثيرًا من أساليبه، فإنه يجدر بنا أن نشير إلى حقيقة الإعلام اليوم في بلاد الإسلام ومجانبته لكل ما تحدثنا عنه، بل أصبح يحقق كل ما يريده أعداء الإسلام من الحرب على الإسلام وإضعاف معنوية المسلمين، معرجين على بيان استغلال أعداء الإسلام من يهود ونصارى وملحدين لهذا العلم العظيم بوسائله وأساليبه المعاصرة المتطورة لتحقيق أهدافهم وغايتهم في أمة الإسلام والنيل منهم، مع التعريض بتقصير المسلمين حكومات وشعوب في الاستفادة من ذلك، وما نتج عن ذلك التقصير من حصاد لثماره المرة. والله المستعان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عبدالله الوشلي (بتصرف يسير)