تعتبر قضية اللغة من القضايا الهامة التي مازالت تحتمل المزيد من التأمل والتحرير والضبط ، إذ تتكرر الإشارات و التنبيهات على أهمية معرفة العربية و أهمية إتقانها لفهم الشريعة و مصادرها ، واعتبارها عاملاً أساسياً جامعاً عند الحديث عن أيّ محاولة جادة للوحدة الثقافية بين المسلمين . و في هذا السياق تبرز مسألةٌ خطيرة لا بد من معالجتها بجرأة و أناة لما يترتب عليها من واجبات و مسؤوليات مضيّعة في حياتنا الفكرية و العملية .وتتمثل هذا المسألة في أنه لابد من التنبيه على قضية الدعوة و البيان و إقامة الحجة على الناس تحقيقاً للعدل الذي كتبه الله سبحانه على نفسه {و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} .
خاتم النبيين
فمن الحقائق الدينية المعلومة لدى الخاصة و العامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُرسل للناس كافة ، وأنه خاتم النبيين ، وأنه لا نبي بعده ، و أنه أرسل رحمةً للعالمين . ومن الحقائق الدينية المعلومة بالضرورة أن القرآن الكريم عربي ، وأنه نزل بلسان عربي مبين، فلا بد لمعرفة معاني القرآن و لمعرفة مراد الله سبحانه من آياته وأحكامه ، لابد من معرفة لسان العرب و معرفة تصاريف استعمالاتهم للعبارات والتراكيب ، حتى أن الإمام الشاطبي يقرر أن كل ما لا تفهمه العرب من القرآن فليس من الشريعة ، و يفوت المرء من معرفة القرآن بقدر ما فاته من معرفة كلام العرب .
وضوح الحجة
ومن الحقائق الدينية المعلومة كذلك أن الله تعالى أراد أن تقع الحجة على الناس ببيان يفهمونه وهديٍ يدركون معانيه {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة} ، {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم}. وقد امتنّ الله سبحانه على العرب أنه أرسل إليهم رسولاً من أنفسهم يعرف طباعهم ويفهم طبيعتهم ومواضع حساسياتهم فوصفه الله تعالى بأنه {عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.
ومن جهةٍ أُخرى ، فإن من الحقائق المعلومة أن نسبة من يفهمون العربية من سكان الأرض لا تعدو واحداً في المائة على أحسن تقدير . و هنا لا بد من سؤال : ما هي الوسائل التي يجب على المسلمين في كل جيل وفي كل عصر اتباعها ليؤدوا مهمة البلاغ المبين ؟
إن طرح هذا السؤال لا يأتي من قبيل الترف و السفسطة وإنما يأتي في إطار الاستجابة الواعية للمسؤولية التي حمّلها الله سبحانه لأمة القرآن بقوله تعالى : {وإنه لذكرٌ لك و لقومك وسوف تسألون} . و لعل من البداهة أن ننظر في الوسائل التي اتبعها المسلمون لتحقيق البلاغ المبين بين الأمم و الشعوب التي أُرسل إليها محمد صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من لا يفهم لغته و لا يدرك من معاني قرآنه شيئاً ؟
والجواب على هذا السؤال على بساطته لا بد له من تحرير وضبط ، رغم أن المرء يحسبُ أن الأمر كان على درجةٍ من البداهة بحيث لم يجد من رواة الأخبار اهتماماً كافياً . فرغم أن النبي e أرسل بكتبه ورسله إلى أربعة من ملوك عصره ممن لا يتكلمون العربية وهم هرقل و كسرى و المقوقس و النجاشي ، إلا أنه لم ترد تفاصيل الحديث عن الترجمة و الترجمان إلا في حديث هرقل مع أبي سفيان . والمهم في الموضوع أن النبي صلى الله عليه و سلم أرسل هذه الكتب بالعربية إلى من يتحدث بغير لسانها ثقةً و معرفةً بوجود الترجمة والمترجمين . فكتبه ورسائله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك عصره تشهد أن الحجة تُقام برسالةٍ مترجمةٍ و بيانٍ مترجم .
روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن أبا سفيان أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركبٍ من قريش و كانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم عاهد فيها أبا سفيان و كفار قريش . فأتوه و هم بإيلياء فدعاهم في مجلسه و حوله عظماء الروم ثم دعاهم و دعا بترجمانه (إلى آخر الحديث) ..
و أفرد البخاري في صحيحه باباً لما يجوز من تفسير التوراة و غيرها من كتب الله بالعربية و غيرها ، لقوله تعالى )فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين(. وقال ابن عباس: أخبرني أبو سفيان بن حرب أن هرقل دعا بترجمانه ثم دعا بكتاب النبي صلى الله عليه و سلم فقرأه : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله إلى هرقل و {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ..} الآية .
وذكر البخاري في كتاب الأحكام عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمره أن يتعلم كتاب اليهود "حتى كتبت للنبي صلى الله عليه و سلم كتبه وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه" . وروى البخاري في كتاب الجزية و الموادعة عن جبير بن حية قال : ندبنا عمر و استعمل علينا النعمان بن مقرن حتى إذا كنا بأرض العدو و خرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفاً ، فقام ترجمان فقال ليكلمني رجل منكم ، فقال المغيرة سل عما شئت… الحديث .
تغير اللسان آية ومنة
ومن المعلوم أن الله سبحانه و تعالى لا يمتن على عباده في كتابه وعلى لسان أنبيائه بما يطالبون بإلغائه والبعد عنه والتحرج منه، فإذا اعتبر الله سبحانه اختلاف الألسنة و الألوان من آياته الدالة على تمام الحكمة و تمام القدرة كان في ذلك دلالة واضحة على أنه لابد من التعامل مع ظاهرة التعددية اللغوية و قبولها و التعايش معها في إطار ثقافي يعترف بهذه التعددية و يبني عليها ليؤصل التعارف و ينفي الحرج والعنت عن الناس و هو يدعوهم إلى شريعة الرحمة . ولقد كان الجيل الاول من المجاهدين الذين ضربوا في الأرض لنشر الهدى و العلم مثالاً لابد من دراسته و كشف آليات الاتصال عنده، إذ لما اتسع سلطان المسلمين و مكن الله لهم في الأرض و اختلط المسلمون بشعوب و أمم مختلفة ، كانت الترجمة والمعايشة هي وسيلة الدعوة لفتح العقول والقلوب لحقائق الإيمان و قيم الإسلام و لم تكن قضية جواز الترجمة مطروحة أصلاً إلا من جهة خصوصية بيان القرآن الكريم ، أما أداء بعض الشعائر كالأذان و الصلاة و الخطبة بغير العربية لمن لا يستطيعها فتحدث فيه الأئمة لينفوا الحرج. ولقد كانت العربية هي لغة الثقافة ولغة الحضارة ، ولم يجد المسلمون حرجاً و لم يضيقوا بوجود اللغات الأُخرى من فارسية و تركية و هندية وغيرها تعايشت في ظل التسامح و التعارف و نقلت معاني أساسيات العقيدة والقيم والأحكام إلى كل لغات الشعوب الإسلامية .
ثغرة ينبغي أن تسد
إنه لابد للعرب الذين نزل القرآن بلغتهم أن يبحثوا هذه القضية بما تستحقه من جهد و تحليل وبحث لوضع و تأصيل خطة ومعيار للترجمة و كيفيّتها و ما يكتنفها من أمور لتكون البيان المبين الذي يقيم الحجة على الناس و يقطع أعذارهم . و لا يغنيهم في هذا أن يشيدوا بفصاحة القرآن و إعجاز القرآن و جمال تعابيره و صوره وتشبيهاته و استعاراته و إشراق بيانه ليعلنوا في نشوة الاستمتاع بلغة القرآن شعار " أن الترجمات لا تغني شيئاً ". وراجع إن شئت في هذا الباب كتاب كيف نتعامل مع القرآن للشيخ الغزالي رحمه الله .
إنه لابد من الإشارة إلى وجود هذه الثغرة في حياتنا الثقافية و من ثم لابد من فتح ملف هذه القضية الكبيرة التي تتصل بصلب عقيدة المسلم و تصوره عن مهمته و دوره في المجتمع الذي يعيش فيه . و على سبيل المثال يشتكى بعض إخوتنا من المسلمين الأمريكيين أن الكتب التي تتحدث عن الإسلام بالانكليزية لا تستحضر ثقافة وروح أساليب ومصطلحات المخاطب ولا تستعمل لغته التي يفهمها أو النموذج العقلي الذي يألفه و يرتاح إليه ، فتغدو هذه الكتب غير مفهومة ومحدثة لبعض التشويش و الاضطراب ، بالإضافة إلى أن هذه الكتب تتحدث عن أمور و مشكلات مستوردة لا تتعلق بحقيقة ما يعانيه أو يهتم به إخوتنا الأمريكيون . و يؤرق هؤلاء الاخوة أن الأمر يُعرض عليهم بصورة أن الفهم للإسلام لا يمكن إلا بتعلم العربية و إتقانها ، بكل ما يحمله هذا الاقتراح من عبء وجهد و وقت لا يملكونه .
وما يزيد المشكلة تعقيداً أنه ليس هناك جهد على مستوى خطورة المهمة لتطوير تعليم اللغة العربية ، و ليس هناك كتب مناسبة أو أدوات متخصصة لأداء هذه الأمانة. و يكاد المرء يذهل من غياب هذا الأمر و محدودية الجهود المبذولة فيه لدعوةٍ عالميةٍ حمَل الله أتباعها مهمة القيام بالبلاغ المبين والشهادة على العالمين .
كما يزيد الأمر خطورةً زهد العاملين و من يُصنّفون في زمرة الدعاة بقضية اللغة ، فيكاد الواحد منهم يمضي السنوات الطويلة في بعض البلاد غير العربية دون جهد حقيقي لتطوير لغته و فهم منطق وثقافة القوم الذين يعيش بينهم ليتمكن من تحرير معاني الإسلام ورسالته العالمية الخالدة بلُغةٍ سهلة قريبة بعيداً عن العبء الثقيل لخصوصيات التاريخ و الثقافة العربية و الشرقية على وجه العموم .
وفيما يأتي نطرح بعض الاقتراحات في هذا الباب عسى أن تكون على الأقل فاتحةً ومقدمةً للحوار الجدّي التفصيلي في هذا الأمر الحسّاس:
· لابد من فتح ملف هذا الموضوع الخطير ليتم البيان المبين و تقوم الحجة على العالمين .
إعادة صياغة الحقائق
لابد من البدء بإعادة صياغة حقائق العقيدة الاسلامية بشكل بسيط مباشر يربط حقائق العقيدة بالتغيير المطلوب على مستوى النفس البشرية و العلاقات الاجتماعية والتفاعلات مع الكون والحياة . وقد يكون في ما ذكره الإمام الشاطبي بعض العون على تحرير هذه القضية و خدمتها . فقد ذكر الشاطبي في كتاب المقاصد من "الموافقات" أن في اللغة العربية من حيث هي ألفاظ دالّة على معان نظران أحدهما : من جهة كونها ألفاظاً و عبارات مطلقة دالّة على معان مطلقة و هي الدلالة الأصلية . و الثاني : من جهة كونها ألفاظاً و عبارات مقيدة دالة على معانٍ خادمة و هي الدلالة التابعة. فالجهة الأولى هي التي تشترك فيها جميع الألسنة وإليها تنتهي مقاصد المتكلمين و لا تختص بأمة دون أُخرى . ويقرر الإمام أن أهل الإسلام اتفقوا على جواز ترجمة و تفسير معاني القرآن على جهة الدلالة الأصلية ، أما الوجه الثاني من الدلالة فهو كالتكملة والتتميم و لا يمكن ترجمة الكلام باعتبار هذا الوجه .
. لابد من تحرير حقائق العقيدة و تخليصها من العبء التاريخي لواقع المسلمين و المعارك الكلامية و الخلافيات و الجدل بين الفرق عبر العصور .
· لابد من تحرير قيم الشريعة وتخليصها من مؤثرات الواقع المعاصر للمسلمين و مشكلاتهم الداخلية و الخارجية.
· لابد من استيعاب الدراسات اللغوية ومنهجية تعليم اللغات وارتباطها بالثقافات و عادات التفكير عند مختلف الأمم .
· لابد من تطوير طرائق تعليم العربية و إخراج المحاولات المتقدمة في مخاطبة جميع شرائح المجتمع يشكل يتناسب مع طبيعة كلٍّ منها.
- الكاتب:
رياض أدهمي - التصنيف:
دراسات في الدعوة