هذه حكاية ذكرها أحد العاملين في مراقبة الطرق السريعة ، كانت له ذكرى ، وأنا أسطرها هنا عساها تكون لنا عبرة ، فأعظم القصص ما كان حقا وواقعيا ، وما كان من ورائه منفعة لقارئه ، فاقرأ أخي الحبيب وتذكر قول الله تعالى : { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}، وانظر أي الخاتمتين تحب أن تكون خاتمتك فاعمل لها ، واجهد لتكون من أهلها ، واعلم أن الأعمال بالخواتيم .. رزقني الله وإياك حسن الخاتمة .
قال صاحبنا : فجأة سمعنا صوت ارتطام قوي فإذا سيارة مصطدمة بسيارة أخرى، حادث لا يكاد يوصف ، شخصان في السيارة في حالة خطيرة أخرجناهما و وضعناهما ممدين ، أسرعنا لإخراج صاحب السيارة الثانية فوجدناه قد فارق الحياة .. عدنا للشخصين فإذا هم في حالة الاحتضار ، هب زميلي يلقنهم الشهادة ولكن ألسنتهم ارتفعت بالغناء .. أرهبني الموقف . وكان زميلي على عكسي يعرف أحوال الموت أخذ يعيد عليهما الشهادة ، وهما مستمران في الغناء لا فائدة .. بدأ صوت الغناء يخفت ، شيئا فشيئا سكت الأول .. برهة ، وتبعه الثاني .. فقدا الحياة ، لا حراك .. لم أر في حياتي موقفا كهذا.
حملناهما في السيارة .. قال زميلي: إن الإنسان يختم له إما بخير أو شر بحسب ظاهره وباطنه ، قال فخفت من الموت واتعظت من الحادثة ، وصليت ذلك اليوم صلاة خاشعة .
قال صاحبنا : بعد مدة حصل حادث عجيب!! شخص يسير بسيارته سيراً عادياً ، تعطلت سيارته في أحد الأنفاق المؤدية إلى المدينة ، فترجل من سيارته لإصلاح العطل في أحد العجلات ، جاءت سيارة مسرعة وارتطمت به من الخلف ، سقط مصاباً إصابات بالغة ، فحملناه معنا في السيارة وقمنا بالاتصال بالمستشفى لاستقباله ، شاب في مقتبل العمر متدين ـ يبدو ذلك من مظهره ـ عندما حملناه سمعناه يهمهم فلم نميز ما يقول ، ولكن عندما وضعناه في السيارة سمعنا صوتا مميزًا .. إنه يقرأ القرآن و بصوت ندي .. سبحان الله لا تقول أبدا إن هذا مصاب قد غطى الدم ثيابه و تكسرت عظامه ، بل هو على ما يبدو على مشارف الموت .. استمر يقرأ بصوت جميل يرتل القرآن.
فجأة .. سكت ، التفتُّ إلى الخلف فإذا به رافع إصبع السبابة يتشهد ، ثم انحنى رأسه .. قفزت إلى الخلف .. لمست يده ، قلبه ، أنفاسه ، لا شيء .. فارق الحياة .. نظرت إليه طويلاً .. سقطت دمعة من عيني .. أخبرت زميلي أنه قد مات .. انطلق زميلي في البكاء ، أما أنا فقد شهقت شهقة وأصبحت دموعي لا تقف.. أصبح منظرنا داخل السيارة مؤثرا .
وصلنا إلى المستشفى .. أخبرنا كل من قابلنا عن قصة الشاب , الكثيرون تأثروا ذرفت دموعهم . أحدهم لما سمع قصته ذهب وقبل جبينه .. الجميع أصروا على الجلوس حتى يصلى عليه .
اتصل أحد الموظفين بمنزل المتوفى ، كان المتحدث أخاه ، قال عنه : أنه يذهب كل يوم اثنين لزيارة جدته الوحيدة في القرية ، كان يتفقد الأرامل والأيتام والمساكين .. كانت تلك القرية تعرفه فهو يحضر لهم الكتب و الأشرطة ، وكان يذهب و سيارته مملوءة بالأرز و السكر لتوزيعها على المحتاجين ، حتى حلوى الأطفال كان لا ينساها ، وكان يرد على من يثنيه عن السفر و يذكر له طول الطريق كان يرد عليه بقوله : إنني أستفيد من طول الطريق بحفظ القرآن و مراجعته وسماع الأشرطة النافعة ، وإنني أحتسب إلى الله كل خطوة أخطوها .
يقول ذلك العامل في مراقبة الطريق : كنت أعيش مرحلة متلاطمة الأمواج ، تتقاذفني الحيرة في كل اتجاه بكثرة فراغي وقلة معارفي ، وكنت بعيداً عن الله ، فلما صلينا على الشاب ودفناه واستقبل أول أيام الآخرة استقبلت أول أيام الدنيا .. تبت إلى الله عسى أن يعفو عما سلف ، وأن يثبتني على طاعته، وأن يختم لي بخير .
…………………………..........
الزمن القادم لعبد الملك القاسم (بتصرف)