تمهيد في الترغيب بالزواج :
إن الزواج مما رغب فيه الكتاب والسنة ، قال تعالى : ( وأنكحوا الأيامى منـكم والصالحين من عبادكم وإمائكم، إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسعٌ عليم ، وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله ) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال صلى الله عليه وسلم :[ يا معشر الشباب من استطاع منكم البـاءة فليتزوج فإنه أغضُّ للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ] . متفق عليه .
وعن ابن عباس في تفسير الآية المتقدمة :[ رغبهم الله في التزويج وأمر به الأحرار والعبيد ووعدهم عليه بالغنى ] .
ويروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه : أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى قال تعالى: (إنْ يكونُوا فُقراء يُغنهم الله من فضله) .
والزواج يحقق للمجتمع الإسـلامي الاستمرار والبقـاء ، وهو يحقق مقصداً من مقاصد الشريعة التي جاءت لإقامتها في الحياة وهو حفظ النسل .
قال شيخنا الأستاذ محمد الخضر الحسين :[ ... فالإسلام أصلح الصلة بين الرجل والمرأة ، وجعلها بمأمن من أن يلحقهـا وهن ، أو يعلق بها كدر ، وبعد أن أحكم صلة الزواج وهذّب حواشيها حثَّ على الزواج وجعله من سننه .. وإذا نظـرت إلى أن حكمة الله تعـالى قد اقتضت بقاء النسل لإقامة الشـرائع وعمران الكون وإصلاح الأرض ، وأن النسل الصالح لا يبقى إلا بالزواج رأيت كيف كان الزواج وسيلة إلى تحقيق أمور عظيمة أحبّ الله أن تكون، وحبّب للناس القيام عليها. وإذا كنت من علماء الأخلاق ونظرت إلى أن هناك فضيلة يقال لها العفـاف ، وعرفت أن الزواج مما يعين على التحـلي بهذه الفضيلة ، ظهر لك أن الـزواج وسيلة من وسائل الفضائل، وكثيراً ما تأخذ الوسائل حكم المقاصد في نظر الشارع وفي عرف الناس .. أو ليس الـزواج يكسب الرجل رفيقة تخلص له ودّهـا ، وتشمل منزله برعايتها ، ومثل هذه الرفيقة التي تحمل حبه الطـاهر ، وتعمل لتدبير منزله في غير مَنٍّ ولا تبـاطؤ ، ولا تتمثل إلا فيمن تربطه بها صلة الـزواج .. والزواج يكسب الرجل ولداً إنْ يُحسن تربيته كان له قرة عين في حياته ، وذكراً طيباً بعد وفاته .. ومن ذا ينكر أن الولد المهذب من أجَلِّ النعم في هذه الحياة؟ فللزواج مصالح تكثر بكثرته ، وتقل بقلته ، وتفقد بفقده ].
وإذا نظرنا في واقعنا وجدنا معوقات عدة تصدُّ الشباب عن الزواج لعل من أهمها المغالاة في المهور .. هذه المغالاة التي بلغت حداً لا يطـاق في هذه الأيام وبالنسبة لشباب ناشئين .. وتحديد المهور أمر ربما كان نافعاً في بعض المجتمعات، ولكنه ليس كافياً وحده، إنه في أغلب الحالات غير مجدٍ ، ذلك لأن التفاخر في الهدايا والملابس والحليّ يضحى عائقاً أشـدّ وأقسى ، فقد يكون المهر بضع مئـات من الريالات ، ولكن الهدايا والحلي قد تبلغ مئات الألوف .
إذن لا بدّ من عملية توعية وإقناع في أن مصلحة الأمة وأخلاقـها ومستقبلها في رفع كل الحواجز والعوائق التي تقوم في وجه الزواج .. لا بد أن يعـلم الناس أن هذا الوضع الرهيب إن استمر سيهدد أعراضهم وكراماتهم ومستقبل أمتهم .
ولو نظرنا في الواقع العملي للمسلمين في عهد السلف لوجدنا أن الأمر كان أيسر بكثير مما هو موجود الآن .
الصداق في الواقع العملي للسلف
فقد روى مسلم وأبو داود عن أبي سلمة بن عبدالرحمن قال : سألتُ عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم : كم كان صـداق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : كان صداقه لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشاً . قالت: أتدري ما النشّ ُ؟ قلت : لا. قالت : نصف أوقية ، فذلك خمسمائة درهم .
وعن أنـس بن مالك : ( أن رسـول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية بنت حيي ، وجعل عتقها صداقها ) أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي وهو طرف من حديث طويل أخرجه البخاري ومسلم.
وأخرج البخاري بسنده إلى سهل بن سعد الساعدي قال : جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله جئت أهب لك نفسي ، قال: فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعَّد النظر فيها وصوَّبه. ثم طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئاً جلست . فقام رجل من أصحابه فقال : يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها . فقال : وهل عندك من شيء ؟ قال : لا والله يا رسول الله . فقال صلى الله عليه وسلم : اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئاً ؟ فذهب ، ثم رجع فقال : لا والله ما وجدتُ شيئاً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : انظر ولو خاتماً من حديد. فذهب ، ثم رجع فقال : لا والله يا رسول الله ولا خاتماً من حـديد . ولـكن هذا إزاري - فقال سهل : ماله رداء - فلها نصفه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تصنع بإزارك ؟ إن لبستَه لم يكن عليها منه شيء ، وإن لبسَـته لم يكن عليك شيء . فجلس الرجل حتى إذا طـال مجلسه قام ، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مولياً ، فأمر به ، فدعي فلما جاء قال : ماذا معك من القرآن ؟ قال : معي سورة كذا وسورة كذا ، عددها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:تقرؤهن عن ظهر قلبك ؟ قال : نعم . قال : اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن .
وأخرج البخاري أن أنساً حدّث بحضور ابنـته فقال: جاءت امرأة إلى رسول الله تعرض عليه نفسها قالت : يا رسول الله ألك بي حاجة ؟ فقالت بنت أنس: ما أقل حياءها .. وأسوأتاه .. وأسوأتاه .. قال : هي خير منك ، رغبت في النبي صلى الله عليه وسلم فعرضت عليه نفسها .
إن هذه الآثار لتدل على أن الزواج في عهد السلف لم يكن على صورته المعقـدة التي جعله فيها الناس اليوم .
الزواج في واقع المسلمين اليوم :
إن الزواج أصبح بالنسبة إلى الشاب الناشىء في كثير من بلاد المسلمين ضرباً من المستحيل ، وقد أثّر هذا الوضع أثراً سيئاً على المجتمع .. إذ جعل نسبة العوانس ترتفع ، وجعل الفساد ينتشر ، والانحلال يتفاقم ، ورغّب كثيراً من الشباب عن الزواج . إنها لمشكلة لا بد أن يعمل لها الداعون، ويواجهها المصلحون .
وليس تحديد المهور وحده كافياً .. لا بد من القدوة الحسنة من أولى الجاه والعلم في الأمة .. يخـطون الخطوة المتقدمة .. والناس أبداً يقلدون الكبراء والوجهاء ..
لا بد من القدوة في إيثار البساطة والتخفيف في الحلي والهدايا والملابس والمهور .
وليعلم الآباء الذين يرون أن في رفع المهور ضماناً لبنـاتهم أن الذي يكره زوجته ويريد طلاقها لا يمكن أن تقف في وجهه مشكلة المال ، لا سيما إذا عرفنا أن المال الآن ميسور .
أجل إن الناس بجهلهم وخضوعهم إلى عادات ما أنزل الله بها من سلطـان وضعوا العوائق والحواجز في وجه الزواج حتى غدا صعباً ، وهذا خطركبير. ولا بد لرجال الفكر من أن ينبهوا إلى المخاطر المذهلة إن استمرت هذه العوائق .
إن كيان المجتمع معرض إلى الانهيار بسبب الفساد العريض الذي يتعاظم يوماً بعد يوم ، وليس الموضوع موضوع المهور .. إن المغالاة في المهور عائق من أشد العوائق في وجـه الزواج ، ولـكنه ليس وحده المسؤول عن مصـاعب الزواج وعزوف الشباب عنه .
عوائق الزواج :
إن علينا أن ندرك أن كل العقبات التي تقوم في وجه الزواج هي معاول هدامة في صرح الفضيلة والخلق والاستقامة والصحة النفسية ، ويستتبع هذا أن نقوم بدراسة الوسائل التي توصلنا إلى إزاحة هذه العوائق جميعاً،فإنّ حل المشكلة يكمن في إزاحة العوائق والاقتناع بضرورة تيسير أسباب الزواج وتسهيلها.
وقد يكون من المفيد أن نعدد أهم هذه العوائق وهي:
1- المغالاة في المهور :
ولقد أدرك سلفنا الصالح خطورة تفاهم هذه العوائق .. فهذا عمـر ابن الخطاب رضي الله عنه، يدرك بثاقب نظره ما يمكن أن يهدد المجتمع من المخاطر والشرور بسبب المغالاة في المهور ، فلقد جاء عنه (رضي الله عنه) أنه قال :" ألا لا تغالوا في صَدُقات النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله، لكان أولاكم بها نبي الله صلى الله عليه وسلم ، ما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح شيئاً من نسائه ولا أنكح شيئاً من بناته على أكثر من ثنتي عشرة أوقية " .
ويحسن أن نقف عند أمرٍ أشار إليه سيدنا عمر، وهو ما يحمل كثيراً من الناس على المغالاة في المهور .. هذا الأمر هو التوهم بأن غلاء مهر المرأة مكرمة لها في الدنيا ، فقال : لو كان ذلك كذلك لكان أحـق الناس بهذه المكرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي تزوج وزوج بمهر لا يتجاوز اثنتي عشرة أوقية .
وأما قصة ردّ المرأة على عمر فهي ضعيفة، أخرجها الزبير بن بكار من وجه منقطع كما قرر ذلك الحـافظ ابن حجر في الفتح ، والمؤسف أن هذه القصـة استغلت استغلالاً سيئاً في وجه دعوة إصلاحية تدعو إلى معالجة الوضع الشاذ .. وهي قصة شائعة جداً ، ويبدو أن للقصاص والوعاظ دوراً في إشاعتها ونشرها ، كمـا يبدو أن هناك جانباً مشوّقاً فيها وهو الموقف البطولي في القصة سواء من جانب المرأة إذ ردت امرأة على الخليفة ، وإنها لجرأة عظيمة ، أم من جانب الخليفة إذ رجـع عن رأيه وأعلن ذلك على الناس وهو لو صح أمر عظيم ، وكذلك فإن لكتب التفسير التي أوردتها دون تعليق عليها دوراً في إشاعتها ونشرها .
وإن كانت المغالاة في المهور غير محظورة لأدلة ذكرها الفقهـاء والمفسرون ، من ذلك أن الله تبارك وتعالى مثّل بالقنطار في المهر ( وآتيتم إحـداهن قِنطـاراً فلا تأخذوا منه شيئاً ) [النساء:20] . قال القرطبي في تفسير هذه الآية :[ فيها دليل على جواز المغالاة في المهور لأن الله لا يمثل إلا بمبـاح ] ، أقول : وليس كل جـائز مستحسناً ، ولا كل مباح مُرغَّباً فيه بل لقد رأينا أن سيدنا عمر (رضي الله عنه) ذهب إلى منعه لأن فيه ضرراً واضحاً . وإذا تحوّل الأمر المبـاح إلى شيء ضـار أضحى غير مباح كما هو مقرر عند العلمـاء .
إن هذه المغالاة تحمل معنى غير كريم بالنسبة للمرأة ، إن المرأة ليست سلعة تباع وتشرى ، والمهر أمر رمزي قرره الإسلام وأوجبه لمصـالح عدة ليس المجال الآن مجال بحثها .. وقد سمعت طرفة أكدها من رواها لي ، وفحواها أن رجـلاً خطبت بنته ، ووافق على الخاطب لأنه مناسب ، وأبدى الخاطب استعداده لدفع مبلغ معقول معتدل مهراً ، فإذا الأب يعترض ويرفض هذا المبلغ ، فظـن أنه استقل المبلغ وأنه يريد أكثر .. ولكنه تبيّن أن الأب يرى أن هذا المبلغ كبـير ، وأنه يرضى بنصف ما دفع وقال مفسراً له موقفه المستغرب هذا: يا بني إن المرأة إنسان كريم لا يباع ولا يشرى ثم أردف قائلاً : وأنا يا بني عندي عدة بنات ، فإذا تسامع الناس الطيبون المقلون بهذا المهر ابتعدوا عني ولم يأت إلا الموسرون، وربما كان فيهم من لا أرضاه زوجاً لبنتي. وهذا موقف العقل والحكمة والدين .
2- المبالغة في الهدايا والحلي والثياب والولائم :
فإنك لترى الزوج يتفاخر بالمبالغة بالهدايا ، فقـد يقدم عدة هدايا تبلغ كل واحدة منـها عشرات الألوف أو مئات الألوف . وكذلك الملابس فبعض الناس يشتري ثوباً بستين ألفاً ، وربما لا يلبس إلا مرة أو مرتين، وكذلك الولائم التي تذبح فيها الذبائح الكثيرة ولا ينتفع من لحومها وطعامها إلا قليل من الناس وتلقى بعد ذلك في القمامة .
لا بد من فصل هذه الأمور عن الزواج ولا بد من التقليل فيها ؛ لأنها سرف منكر بل ربما كانت سفهاً ملوماً .
3- سيطرة العادات البالية والأعراف الباطلة على الناس ، وذلك مما يعوق الزواج ويكبل كلاً من الفتى والفتـاة ، كأن يحمل العرف الفتى على الزواج ممن لا يحب رعاية لأقوال الناس وكلامهم .
4- تحكم النزعة المادية : فلا يزوج الرجل إلاّ إن كان غنيـاً موسراً ، ولا يرغب بالفتاة الفقيرة .وكم سمعنا من أنباء إخفاق الزواج الذي يقوم على المصلحة ، وكم رأينا ناساً تزوجوا فقراء فأغناهم الله من فضله .
5- طول مدة الدراسة التي تصرف الشباب والشابات عن الزواج، والعجب كل العجب أننا نمشي وراء الغرب في بعض الأمور ، ونرفض السـير وراءه في أمور أخرى نافعة ، إنه شركة إذا تم الاتفاق على إقامتها فليس للسفاسف أن تحد منها. إني أعرف حادثة بطل الزواج فيها من أجل المهر بعد أن اتفق الطرفان الطيبان على كل شيء .
فإلى إصلاح هذه المفاسد ندعو العلمـاء والوجهاء والآباء والأمهات والله يتولى الجميع بالتوفيق والسداد
ــــــــــــــــــــــــــــ
من كتاب (( نظرات في المرأة المسلمة )) بتصرف