الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فعندما يطلق العلماء التفسير بالرأي، فإنما يقصدون بالرأي: الاجتهاد.
أما الأمور التي يجب استناد الرأي إليها في التفسير، فقد نقلها الإمام السيوطي في الإتقان عن الإمام الزركشي، فقال ما ملخصه:
للناظر في القرآن لطلب التفسير مآخذ كثيرة، أمهاتها أربعة:
الأول: النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع التحرز عن الضعيف، والموضوع.
الثاني: الأخذ بقول الصحابي، فقد قيل: إنه في حكم المرفوع مطلقًا، وخصه بعضهم بأسباب النزول، ونحوها، مما لا مجال للرأي فيه.
الثالث: الأخذ بمطلق اللغة، مع الاحتراز عن صرف الآيات إلى ما لا يدل عليه الكثير من كلام العرب.
الرابع: الأخذ بما يقتضيه الكلام، ويدل عليه قانون الشرع.
وهذا النوع الرابع هو الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس في قوله: اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل. رواه البخاري، ومسلم.
فمن فسر القرآن برأيه أي: باجتهاده، ملتزمًا الوقوف عند هذه المآخذ، معتمدًا عليها فيما يرى من معاني كتاب الله، كان تفسيره سائغًا جائزًا خليقًا بأن يسمى تفسيرًا، ويكون تفسيرًا جائزًا ومحمودًا.
ومن حاد عن هذه الأصول، وفسر القرآن غير معتمد عليها، كان تفسيره ساقطًا مرذولًا خليقًا بأن يسمى التفسير غير الجائز، أو التفسير المذموم، وكما يقول صاحب مناهل العرفان: فالتفسير بالرأي الجائز، يجب أن يلاحظ فيه الاعتماد على ما نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه؛ مما ينير السبيل للمفسر برأيه، وأن يكون صاحبه عارفًا بقوانين اللغة، خبيرًا بأساليبها، وأن يكون بصيرًا بقانون الشريعة، حتى ينزل كلام الله على المعروف من تشريعه.
أما الأمور التي يجب البعد عنها في التفسير بالرأي، فمن أهمها:
التهجم على تبيين مراد الله من كلامه على جهالة بقوانين اللغة، أو الشريعة.
ومنها: حمل كلام الله على المذاهب الفاسدة.
ومنها: الخوض فيما استأثر الله بعلمه.
ومنها: القطع بأن مراد الله كذا من غير دليل.
ومنها: السير مع الهوى، والاستحسان.
ويمكن تلخيص هذه الأمور الخمسة في كلمتين هما: الجهالة، والضلالة. انظر: البرهان للزركشي (2/156)، والإتقان للسيوطي (2/1204)، ومناهل العرفان في علوم القرآن للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني (2/42)، هذا باختصار، ومن أراد التوسع، فيمكنه الرجوع إلى هذه المراجع.
وأما التفسير بالمأثور، فهو يشمل ما جاء في القرآن نفسه من البيان والتفصيل، وما نقل عن الرسول الله وصلى الله عليه وسلم، وأصحابه.
أما ما ينقل عن التابعين، فبعض العلماء يعتبره من المأثور، وبعضهم يعتبره من التفسير بالرأي، لكن كتب التفسير بالمأثور، قد ضمت ما نقل عن التابعين في التفسير؛ ولذلك نعتبره مدرجًا في التفسير المأثور، قال الإمام ابن كثير -رحمه الله- في مقدمة تفسيره: والفرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: " فبم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول لله لما يرضى رسول الله" وهذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد، كما هو مقرر في موضعه.
وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك، لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح، والعمل الصالح، لا سيما علماؤهم، وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهتدين المهديين، وعبد الله بن مسعود ... ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترجمان القرآن…)
ثم قال: (إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة، ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين، كمجاهد بن جبر، فإنه كان آية في التفسير، كما قال محمد ابن إسحاق: ثنا أبان ابن صالح عن مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها…. وكسعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، ومسروق بن الأجدع، وسعيد ابن المسيب، وأبي العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، وغيرهم من التابعين، وتابعيهم، ومن بعدهم). انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/9)، وهذا الكلام نفسه قد نص عليه الإمام ابن تيمية - رحمه الله- وهو شيخ الإمام ابن كثير- في مقدمة التفسير (13/368) ضمن مجموع الفتاوى لابن تيمية.
والله أعلم.