الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فاعلمي أن ما يعرض للمرء من وساوس من الأمور التي لا دخل له فيها، غير مؤاخذ عليها، لكن يجب عليه ألا يسترسل معها أو يتمادى فيها، سواء كانت من الوساوس التي تتصل بالإيمان أو كانت من غيرها، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: أو قد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان.
والمقصود من الحديث أن كراهية هذه الوساوس وبغضها والنفور منها هي صريح الإيمان، فاطمأني واصبري ولا تقلقي، والزمي ذكر الله، فإن ذلك هو أحسن علاج لما تجدينه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والوسواس يعرض لكل من توجه إلى الله. فينبغي للعبد أن يثبت ويصبر ويلازم ما هو فيه من الذكر والصلاة ولا يضجر، لأنه بملازمة ذلك ينصرف عنه كيد الشيطان، (إن كيد الشيطان كان ضعيفاً). وكلما أراد العبد توجها إلى الله بقلبه جاء الوسواس من أمور أخرى، فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق، كلما أراد العبد أن يسير إلى الله أراد قطع الطريق عليه. انتهى.
وفيما يتعلق بموضوع سؤالك، فاعلمي أنه لا يمكن التناقض بين الحقيقة العلمية وبين الثابت من النصوص الشرعية، وإذا ظهر شيء مما يوحي بالتناقض بينهما، فإن ذلك لا يخلو من أحد أمرين:
الأول: أن تكون النصوص المستدل بها في الموضوع غير صحيحة، أو أنها قد فسرت تفسيراً غير صحيح.
الثاني: أن تكون المعطيات التي استندت إليها التجربة العلمية غير صحيحة.
واعلمي أن التجربة العلمية التي تقول: إن خلق الإنسان يكون خلال الأربعين الأولى نطفة ثم علقة ثم مضغة في نفس الأربعين، وأنه في بداية الأسبوع السابع (42 يوماً) يكون مكتمل الخلقة، هي في الحقيقة متفقة مع ما ورد في الشرع، فقد روى مسلم عن حذيفة بن أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال يا رب أذكر أم أنثى فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول: يا رب أجله فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول: يا رب رزقه فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص. فهذا الحديث الصحيح صريح فيما سألت عنه.
مع أن ما ورد في الصحيحين مما يوهم تناقضا مع هذا، قد شرحه بعض العلماء المحدثين بما يزيل اللبس، يقول د. عبد الجواد الصاوي في مقال له طويل جامعاً بين حديث مسلم والحديث الذي رواه الشيخان: ... كما أخبر في نفس الحديث أن أطوار الجنين الأولى، العلقة والمضغة تبدأ وتكتمل أوصافها وتنتهي خلال هذه الأربعين. فالحديث يتكلم عن التحديد الزمني لقضيتين: الأولى: زمن جمع الخلق لخلايا أعضاء الجسم في صورة براعم أولية، والثانية: زمن أطوار الجنين، العلقة والمضغة نصا والنطفة لزوماً، لأنه لا وجود لكلمة النطفة في الروايات الصحيحة، والحديث بهذا اللفظ للإمام مسلم يختلف عن حديث الإمام البخاري في زيادة عبارة (في ذلك) والتي صححت الفهم وأظهرت التطابق التام مع حقائق علم الأجنة الحديث فأزالت شبه الزائغين وردت كيد أعداء السنة والإسلام إلى نحورهم.
وبناء على هذه الرواية للحديث فخلق الجنين يجمع خلال الأربعين يوماً الأولى من عمره، وأطوار النطفة والعلقة والمضغة تقع وتكتمل كلها في خلال هذه الأربعين، لأن لفظ (في ذلك) يعود إلى الوقت، أي إلى الأربعين يوماً، أما اسم الإشارة في قوله (مثل ذلك)، فلا بد أنه يعود إلى شيء آخر غير الوقت، وأقرب شيء إليه هنا هو جمع الخلق، والمعنى: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون في ذلك (أي في ذلك العدد من الأيام) علقة (مجتمعة في خلقها) مثل ذلك، (أي مثلما اجتمع خلقكم في الأربعين)، ثم يكون في ذلك (أي في نفس الأربعين يوماً) مضغة (مجتمعة مكتملة الخلق المقدر لها) مثل ذلك، (أي مثلما اجتمع خلقكم في الأربعين يوماً). وذلك من ترتيب الإخبار عن أطوار الجنين لا من ترتيب المخبر به، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثاني أن الجنين قبل اليوم الثاني والأربعين لا يمكن تمييز صورته الإنسانية، ولا تخلق أجهزته بصورة تامة إلا بعد هذا التاريخ، فالحديث يشير بوضوح إلى أن تشكل الجنين بتصويره وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظامه وتمايز أعضائه الجنسية لا يحدث إلا بعد اليوم الثاني والأربعين...
وهذا الشرح الذي أورده د. عبد الجواد الصاوي، كان قد سبقه الشيخ عبد المجيد الزنداني بما لا يختلف معه، ونرجو أن تكوني قد وجدت في هذا الجواب ما يزيل عنك الشك والوسواس.
والله أعلم.