الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما تعليم أحكام الدين من فقه ونحوه؛ فهذا يجوز أخذ الأجرة عليه اتفاقًا.
قال ابن قدامة: وما لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة، كتعليم الخط والحساب والشعر المباح، وأشباهه، وبناء المساجد والقناطر، جاز أخذ الأجر عليه؛ لأنه يقع تارة قربة، وتارة غير قربة، فلم يمنع من الاستئجار لفعله، كغرس الأشجار، وبناء البيوت. وكذلك في تعليم الفقه والحديث. انتهى.
وإنما اختلف العلماء في أخذ الأجرة على تعليم القرآن، فأجاز ذلك الشافعية والمالكية وأحمد في رواية، ومنعه الحنابلة والحنفية، والقول بالجواز أصح إن شاء الله.
قال ابن قدامة مبينًا أدلة الجواز ما عبارته: وعن أحمد، رواية أخرى، يجوز ذلك. حكاها أبو الخطاب. ونقل أبو طالب، عن أحمد، أنه قال: التعليم أحب إلي من أن يتوكل لهؤلاء السلاطين، ومن أن يتوكل لرجل من عامة الناس في ضيعة، ومن أن يستدين ويتجر، لعله لا يقدر على الوفاء، فيلقى الله تعالى بأمانات الناس، التعليم أحب إلي. وهذا يدل على أن منعه منه في موضع منعه للكراهة، لا للتحريم. وممن أجاز ذلك مالك، والشافعي. ورخص في أجور المعلمين أبو قلابة وأبو ثور، وابن المنذر؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زوَّج رجلاً بما معه من القرآن. متفق عليه.
وإذا جاز تعليم القرآن عوضاً في باب النكاح، وقام مقام المهر، جاز أخذ الأجرة عليه في الإجارة، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله. حديث صحيح.
وثبت أن أبا سعيد رقى رجلاً بفاتحة الكتاب على جُعل فبرأ، وأخذ أصحابه الجعل، فأتوا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبروه، وسألوه، فقال: لعمري لمن أكل برقية باطل، لقد أكلت برقية حق، كلوا واضربوا لي معكم بسهم. ولذا؛ جاز أخذ الأجر؛ لأنه في معناه، ولأنه يجوز أخذ الرزق عليه من بيت المال، فجاز أخذ الأجر عليه، كبناء المساجد والقناطر، ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك، فإنه يحتاج إلى الاستنابة في الحج عمن وجب عليه الحج وعجز عن فعله، ولا يكاد يوجد متبرع بذلك، فيحتاج إلى بذل الأجر فيه. انتهى.
ومن أدلة المانعين: حديث القوس الذي أشرت إليه، وهو ما رواه ابن ماجه عن أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: علمتُ رجلاً القرآن، فأهدى إلي قوسًا، فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن أخذتها أخذت قوسًا من نار. فرددتها. ولأبي داود نحوه من حديث عبادة بن الصامت.
وقد أجيب عن حديث أُبَيٍّ هذا بأجوبة منها تضعيفه، فقد حكم بانقطاعه جماعة من العلماء -كالبيهقي وابن عبد البر والمزي. قال الشوكاني: وأعله ابن القطان بالجهل بحال عبد الرحمن بن سلم الراوي عن عطية، وله طرق عن أبي، قال ابن القطان: لا يثبت منها شيء. اهـ.
وأما حديث عبادة فقال عنه الشوكاني: وفي إسناده المغيرة بن زياد أبو هاشم الموصلي. وقد وثقه وكيع ويحيى بن معين وتكلم فيه جماعة. وقال الإمام أحمد: ضعيف الحديث حدث بأحاديث مناكير، وكل حديث رفعه فهو منكر. انتهى.
فهي أحاديث معلولة لا تقاوم ما ثبت في الصحيح، وعلى تقدير صحتها، فقد أجيب من جهة المجيزين عنها بأجوبة. قال الشوكاني في شرح المنتقى: منها أن حديثا أبي وعبادة قضيتان في عين، فيحتمل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- علم أنهما فعلا ذلك خالصًا لله، فكره أخذ العوض عنه، وأما من علم القرآن على أنه لله، وأن يأخذ من المتعلم ما دفعه إليه بغير سؤال ولا استشراف نفس، فلا بأس به. انتهى.
ومنها: أنه منسوخ بأحاديث الجواز، وأنه كان في أول الإسلام ممنوعاً ثم أجيز. قال المناوي في شرح حديث: إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله: وأما خبر إن كنت تحب أن تطوق طوقا من نار فاقبلها -أي الهدية- على تعليمه، فمنزل على أنه كان متبرعا بالتعليم ناويا الاحتساب فكره تضييع أجره وإبطال حسنته، فلا حجة فيه للحنفية المانعين أخذ الأجر لتعليمه، وقياسه على الصوم والصلاة فاسد لأنهما مختصان بالفاعل، وتعليم القرآن عبادة متعدية لغير المتعلم. ذكره القرطبي قال ابن حجر: في هذا الخبر إشعار بنسخ الخبر الآتي: من أخذ على تعليم القرآن قوسا قلده الله قوسا من نار. انتهى.
والحاصل: أن القول بالجواز أصح وأقوى دليلًا، وعليه؛ فيجوز لك أخذ أجرة معلومة على تعليم القرآن وغيره من العلوم بأي عملة تتفقان عليها كانت دولارًا أو غيره، فيجوز أن تتفق مع المتعلم على أن الساعة من التعليم بكذا من الدولارات، ولا حرج في ذلك إن شاء الله.
والله أعلم.