الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
ففصل النزاع في مسائل الميراث والحقوق المشتركة مَرَدُّهُ إلى المحاكم الشرعية، أو من ينوب منابها. ويتأكد هذا في المسائل التي اختلف فيها الفقهاء، وتحتاج إلى حكم القاضي الذي يرفع الخلاف.
ومن هذه المسائل مسألة: إعطاء المال على وجه يحتمل القرض والهبة، دون بيان لذلك.
قال الروياني في «بحر المذهب»: إذا قال: خذ هذه الدراهم وتصرف فيه، أو قال: خذ هذا البزر وازرعه لنفسك. فيه وجهان:
أحدهما: يجعل هبة لأنه لم يوجد شرط القرض لا بنطق ولا بدلالة.
والثاني: يكون قرضًا؛ لأن اللفظ يحتمل كلاهما فلا يقطع حقه عن ملكه إلا بيقين. اهـ.
والأظهر أنه محمول على القرض؛ لأن الهبة والقرض كلاهما تبرع وإحسان، وأقلهما القرض، فهو المتيقن، حتى تثبت الهبة؛ ولذلك إن أعطى المعطي، ولم ينو قرضا ولا هبة، حمل على القرض أيضا؛ لأنه أقل التبرعين فهو المتيقن.
قال ابن مازه في «المحيط البرهاني»: إنما جعل قرضاً، وإن احتمل الهبة؛ لأنه كما يحتمل الهبة يحتمل القرض، والقرض أقل التبرعين؛ لأنه لتمليك المنفعة دون العين على ما عرف، والهبة لتمليك العين والمنفعة جميعاً، فكان الأقل متيقناً، فكان الأقل أولى بالإثبات. اهـ.
وقال السرخسي في «شرح السير الكبير»: وإذا دفع الرجل إلى رجل مالا فقال: خذ هذا المال فجاهد به في سبيل الله، أو قال: اغز به في سبيل الله، فأخذه الرجل فاشترى به متاعا وكراعا وسلاحا ثم مات أحدهما، فقال الذي أعطى المال إن كان حيا، أو ورثته إن كان ميتا: إنما أعطاه المال قرضا ليجاهد به عن نفسه. وقال المعطى أو ورثته: إنما أعطاه إياه على وجه الصدقة في سبيل الله تعالى.
فالقول قول المعطى في ذلك أو ورثته؛ لأن قوله "فجاهد به في سبيل الله" إضافة الجهاد إلى فعل المعطي لا إلى المال؛ لأن هذا ليس بأمر بأن يأتي فعل الجهاد، وإذا كان الجهاد مضافا إلى فعله لا إلى المال لم يصر دافعا للمال في سبيل الله ليصير صدقة، فبقي قوله: "خذ هذا المال" مجردا، وهو كلام يحتمل القرض ويحتمل الصدقة. فكل واحد منهما تبرع والقرض أقل التبرعين؛ لأنه يوجب البدل، والصلة لا توجب البدل فحمل على الأقل؛ لأن الأقل متيقن. اهـ.
وقال أيضا: إن تصادقا المعطي والمعطى له أن المعطي أعطاه إياه، ولم ينو قرضا ولا غيره، فالمال قرض، ولا يكون صلة؛ لما قلنا: إنه أقل التبرعين، وكان على الأقل حتى يثبت الأكثر، وهذا فصل ينبغي أن يحفظ، فإنه لا رواية له إلا في هذا الموضع. اهـ.
والحمل على الأقل المتيقن أصل ثابت في كثير من أبواب الفقه.
قال الجويني في «نهاية المطلب»: من حمل على الأقل خرّج ذلك على أصلٍ ممهَّدٍ في الوصايا والأقارير، وهو أنها منزّلةٌ على الأقل المتيقَّن، وإذا فرض ترددٌ بين القليل والكثير، فالوجه حمله على القليل. اهـ.
وجاء في «مواهب الجليل» للحطاب: وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ سِيَاقُ كَلَامِهِ عَلَى شَيْءٍ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْغَالِبِ فِي الْبَلَدِ مِنْ الدَّنَانِيرِ أَوْ الدَّرَاهِمِ، فَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ أَحَدُهُمَا حُمِلَ عَلَى الْأَقَلِّ. اهـ.
وقال الكلوذاني في «الهداية على مذهب الإمام أحمد»: وفي الجملة أن لفظ الموصي إذا كان مبهما رجع في التفسير إلى الورثة ... وإن احتمل نوعي عدد حمل على الأقل؛ لأنه هو اليقين. اهـ.
قال البهوتى في «كشاف القناع»: قال في المستوعب: وإنما لم تلزمه المائة؛ لأن إقراره يحتمل المائة ويحتمل بعض درهم، فحُمِل على الأقل؛ لأنه اليقين، وما زاد لا يلزمه؛ لأنه مشكوكٌ فيه. انتهى. وفي الوقف: يحتمل أنه مخفوض، فيحمل عليه؛ لأنه المتيقن. اهـ.
فعلى احتمال أن هذا المال قرض، فهو من جملة تركة الوالدة، يستحقه جميع الورثة بحسب أنصبتهم الشرعية.
وعلى احتمال أنه هبة، فهو لمن وُهب له، وليس للمتوفاة، ولا لورثتها شيء منه، والذي يمكنه أن يقرر أحد الاحتمالين هو القاضي.
والله أعلم.