الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فكل أفعال الله -تعالى- مقرونة بالعلم، وناشئة عن الحكمة، وهو -سبحانه- كما يخلق فإنه هو الذي يختار، ويكون ذلك في كل شأن موافقا للحكمة ودالَّاً عليها.
وأما العشوائية في الخلق والاختيار فلا تنبغي لله -سبحانه وتعالى وتقدس-! قال -عز وجل-: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص: 68].
ومن أولى ما يظهر فيه ذلك: مسألة النبوة والرسالة، فالله -عز وجل- لا يصطفي لذلك من البشر إلا من يصلح له ويليق به، كما قال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام: 124].
قال القرطبي في تفسيره: أي بمن هو مأمون عليها، وموضع لها. اهـ.
وقال البغوي: يعني: الله أعلم بمن هو أحق بالرسالة. اهـ.
وقال الرازي في مفاتيح الغيب: المعنى أن للرسالة موضعا مخصوصا لا يصلح وضعها إلا فيه، فمن كان مخصوصا موصوفا بتلك الصفات التي لأجلها يصلح وضع الرسالة فيه كان رسولا، وإلا فلا. والعالم بتلك الصفات ليس إلا الله تعالى. اهـ.
وقال الماوردي في النكت والعيون: قصد بذلك أمرين:
أحدهما: تفرد الله -تعالى- بعلم المصلحة فيمن يستحق الرسالة.
والثاني: الرد عليهم في سؤال ما لا يستحقونه، والمنع مما لا يجوز أن يسألوه. اهـ.
وقال ابن كثير في تفسيره: أي: هو أعلم حيث يضع رسالته، ومن يصلح لها من خلقه. اهـ.
ثم أورد طائفة من الأحاديث الدالة على وقع هذا الاختيار والاصطفاء في حق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
منها حديث: إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم. رواه مسلم.
وحديث: بعثت من خير قرون بني آدم، قرنا فقرنا، حتى كنت من القرن الذي كنت فيه. رواه البخاري.
وحديث: إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فرقتين، فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل، فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتا، فجعلني في خيرهم بيتا، فأنا خيركم بيتا، وخيركم نفسا. رواه أحمد والترمذي وحسنه.
وأورد أيضا أثر ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته. ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه. رواه أحمد.
وكذلك الخليل إبراهيم -عليه، وعلى نبينا الصلاة والسلام- اختاره الله على علم، كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [الأنبياء: 51].
وسبب فضله -عليه السلام- مشهور مذكور في كتاب الله تعالى، وحسبك أن ترجع لقصة كسره للأصنام، وإلقائه في النار، واعتزاله لقومه وتبرئه منهم. ولقصة بنائه للكعبة هو وابنه إسماعيل، ثم الأمر بذبحه ابنه إسماعيل وامتثاله لأمر الله.
ويكفيه في المدح والثناء وبيان الفضل والمكانة، قوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124]، وقوله عز وجل: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: 37].
وقوله سبحانه: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. [النحل: 120 - 123].
والله أعلم.