الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله تعالى أن يهديك، ويوفقك، وأن يلهمك رشدك، ويقيك شر نفسك.
وأما ما سألت عنه، فصحيح أن الله يعلم الغيب، ومن جملة ذلك علمه سبحانه بأنه سيأمر المسلمين بالتوجه إلى الكعبة بعد أمرهم بالتوجه لبيت المقدس! وكان ذلك لحكمة نص عليها القرآن في قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ {البقرة:143}.
ومعنى الآية -كما قال الحافظ ابن كثير في تفسيره-: إنما شرعنا لك -يا محمد -التوجه أولا إلى بيت المقدس، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة، ليظهر حال من يتبعك، ويطيعك، ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه، أي: مرتدًّا عن دينه {وإن كانت لكبيرة} أي: هذه الفعلة، وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، أي: وإن كان هذا الأمر عظيما في النفوس، إلا على الذين هدى الله قلوبهم، وأيقنوا بتصديق الرسول، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، فله أن يكلف عباده بما شاء، وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة، والحجة البالغة في جميع ذلك، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شَكًّا، كما يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق ... ولهذا كان من ثبت على تصديق الرسول -صلى الله عليه وسلم- واتباعه في ذلك، وتوجه حيث أمره الله من غير شك ولا ريب، من سادات الصحابة. وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم الذين صلوا القبلتين. اهـ. وانظر لمزيد الفائدة الفتوى: 333721.
ثم إننا نقول بصفة عامة: إن وقوع النسخ في أحكام الشريعة لا يتعارض مع علم الله تعالى بالغيب، وإنما يقع لحكمة قد علمها الله سلفا في ربط بعض الأحكام بأمد معين، أو بظرف معين.
وراجع تفصيل ذلك في الفتوى: 46644.
والله أعلم.