الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن الفروق الواضحة بين العبادات المحضة، والعادات المحضة؛ أن العبادات إنما شرعت في الأصل تعظيما لله تعالى، وتقربا إليه، وطلبا لثواب الآخرة. وأما العادات فوضعت في الأصل لتحصيل مصالح الدنيا، وانتظام معايش الناس.
ولذلك فإن الرياء في العبادة محرم، والإخلاص فيها شرط، بخلاف العادة، فلا يحرم فيها الرياء، ولا يشترط فيها الإخلاص، ولا تفتقر إلى نية، ولكن لا يؤجر عليها صاحبها إلا إن نوى بها وجها من التقرب إلى الله تعالى، وثواب الآخرة.
وليس في ذلك إخراج للعادات عن المعنى العام الواسع للعبادة، ولكن فيه تقييد دخولها فيه بحسب النية والقصد، فمن قصد بالعادة قربة صارت في حقه عبادة، ومن لم يقصد بها قربة لم تكن في حقه عبادة.
قال العز بن عبد السلام في «قواعد الأحكام»: ما شرع للمصالح الدنيوية ولا تتعلق به المصالح الأخروية إلا تبعا، كإقباض الحقوق الواجبة، وفروض الكفايات التي تتعلق بها المصالح الدنيوية من الحرث والزرع، والنسج والغزل، والصنائع التي يتوقف عليها بقاء العالم، ودفع ما يجب دفعه، وقطع ما يجب قطعه، فهذا لا يؤجر عليه إذا قصد إليه إلا أن ينوي به القربة إلى الله -عز وجل-، فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما أريد به وجهه، وإنما الأعمال بالنيات. اهـ.
وقال الشاطبي في «الموافقات»: وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ إِصْلَاحًا لِلْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ الْعِبَادِ، كَالنِّكَاحِ، وَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي عُلِمَ قَصْدُ الشَّارِعِ إِلَى الْقِيَامِ بِهَا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْعَاجِلَةِ، فَهُوَ حَظٌّ أَيْضًا قَدْ أَثْبَتَهُ الشَّارِعُ وَرَاعَاهُ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَعُلِمَ ذَلِكَ مِنْ قَصْدِهِ بِالْقَوَانِينِ الْمَوْضُوعَةِ لَهُ، وَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ بِإِطْلَاقٍ، فَطَلَبُهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، فَكَانَ حَقًّا وصحيحا، هذا وجه. وَوَجْهٌ ثانٍ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ طَلَبُ الْحَظِّ فِي ذَلِكَ قَادِحًا فِي الْتِمَاسِهِ وَطَلَبِهِ، لَاسْتَوَى مَعَ الْعِبَادَاتِ كَالصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ إِلَى الِامْتِثَالِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعَادَاتِ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، وَهَذَا كافٍ فِي كَوْنِ الْقَصْدِ إِلَى الْحَظِّ لَا يَقْدَحُ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَسَبَّبُ عَنْهَا ذَلِكَ الْحَظُّ، بَلْ لَوْ فَرَضْنَا رَجُلًا تَزَوَّجَ لِيُرَائِيَ بِتَزَوُّجِهِ، أَوْ لِيُعَدَّ مِنْ أَهْلِ الْعَفَافِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، لَصَحَّ تَزَوُّجُهُ، مِنْ حَيْثُ لَمْ يشرع فيه نية العبادة من حيث هو تَزَوَّجَ فَيَقْدَحَ فِيهَا الرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ، بِخِلَافِ الْعِبَادَاتِ الْمَقْصُودِ بِهَا تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى مُجَرَّدًا. اهـ.
وراجع لمزيد الفائدة الفتاوى: 32192، 174409، 173799، 120085، 379579.
وأما السؤال الثاني؛ فجوابه: أن تحصيل ذلك بالفعل يتطلب علما شرعيا، يعرف به صاحبه المصالح التي أجاز الشرع قصدها في العبادات، سواء من القرآن: كالتجارة في الحج، وتفريج الكروب، وتيسير الأمور، وسعة الرزق بتقوى الله. أو من السنة: كإعفاف النفس بكثرة الصوم، وأخذ الأسلاب في الجهاد، وبسط الرزق بصلة الرحم.
ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتاوى: 312220، 300781، 197723.
والله أعلم.