الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا الحديث رواه أحمد والطبري في تفسيره، عن زيد بن الحباب، حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان، حدثنا عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن الحارث البكري، بلفظ: أعوذ بالله ورسوله، أن أكون كوافد عاد.
وقد رواه أحمد قبله مباشرة -وكذا ابن أبي شيبة في مسنده، والطبراني في الكبير- عن عفان بن مسلم، حدثنا سلام أبو المنذر، به، دون كلمة: "ورسوله" بلفظ: أعوذ بالله أن أكون كما قال الأول.
وعفان أوثق من زيد بن الحباب، وقد تابعه على لفظه: سفيان بن عيينة، عند الترمذي. وأبو بكر بن عياش، عند أبي الشيخ في العظمة، والطبري في تفسيره، والقصة واحدة.
ثم إن صح الحديث بلفظ: أعوذ بالله ورسوله، فهذا من جنس الاستعانة والاستغاثة، والاستجارة بالحي الحاضر، فيما يقدر عليه، وهذا جائز بلا ريب. بخلاف الميت والغائب، أو ما لا يقدر عليه إلا الله.
قال الشيخ ابن عثيمين -كما في مجموع فتاويه ورسائله-: أما الاستعاذة بالمخلوق؛ ففيها تفصيل: فإن كان المخلوق لا يقدر عليه؛ فهي من الشرك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لا يجوز الاستعاذة بالمخلوق عند أحد من الأئمة".
وهذا ليس على إطلاقه، بل مرادهم مما لا يقدر عليه إلا الله؛ لأنه لا يعصمك من الشر الذي لا يقدر عليه إلا الله، سوى الله. ومن ذلك أيضا الاستعاذة بأصحاب القبور؛ فإنهم لا ينفعون ولا يضرون؛ فالاستعاذة بهم شرك أكبر، سواء كان عند قبورهم أم بعيدا عنهم.
أما الاستعاذة بمخلوق فيما يقدر عليه؛ فهي جائزة .. وهو مقتضى الأحاديث الواردة في صحيح مسلم لما ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفتن؛ قال: «فمن وجد من ذلك ملجأ؛ فليعذ به». وكذلك قصة المرأة التي عاذت بأم سلمة، والغلام الذي عاذ بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك في قصة الذين يستعيذون بالحرم والكعبة، وما أشبه ذلك. وهذا هو مقتضى النظر، فإذا اعترضني قطاع طريق، فعذت بإنسان يستطيع أن يخلصني منهم؛ فلا شيء فيه ..
وعلى هذا؛ فكلام الشيخ -رحمه الله- في قوله: "إن الأئمة لا يجوزون الاستعاذة بمخلوق" مقيد بما لا يقدر عليه إلا الله، ولولا أن النصوص وردت بالتفصيل، لأخذنا الكلام على إطلاقه، وقلنا: لا يجوز الاستعاذة بغير الله مطلقا. اهـ.
وقصة المرأة التي استعاذت بأم سلمة رواها مسلم في صحيحه عن جابر: أن امرأة من بني مخزوم سرقت، فأتي بها النبي صلى الله عليه وسلم، فعاذت بأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله لو كانت فاطمة لقطعت يدها».
قال ابن حجر في فتح الباري: "فعاذت بأم سلمة" أي استجارت. اهـ.
وكذلك قصة الغلام رواها مسلم عن أبي مسعود الأنصاري: أنه كان يضرب غلامه, فجعل يقول: أعوذ بالله, قال: فجعل يضربه, فقال: أعوذ برسول الله, فتركه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله، لله أقدر عليك منك عليه, قال: فأعتقه. اهـ.
قال القاضي عياض في إكمال المعلم: لعله لم يسمع استعاذته الأولى؛ لشدة غضبه، كما لم يسمع نداء النبي صلى الله عليه وسلم له، كما جاء في الحديث، أو يكون لما استعاذ برسول الله صلى الله عليه وسلم، تنبه لمكانه. اهـ.
ومن ذلك أيضا ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عائشة قالت: بعثت صفية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام قد صنعته له، وهو عندي، فلما رأيت الجارية، أخذتني رعدة .. فضربت القصعة فرميت بها. قالت: فنظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرفت الغضب في وجهه، فقلت: "أعوذ برسول الله أن يلعنني اليوم".
قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله ثقات. اهـ. وحسنه الأرنؤوط.
ومن هذا الباب استعاذة الحارث البكري التي يسأل عنها السائل، فقد كان وافد قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستجار به صلى الله عليه وسلم من خيبة السعي والرجوع إلى قومه بغير ما أراد من جعل الدهناء -وهي موضع ببلادهم- حاجزا بينهم وبين بني تميم. فيكون شبيها بوافد عاد الذي خاب سعيه، ولم ينفع قومه.
والله أعلم.