الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلم يقل ابن القيم رحمه الله بتحريم قوس الرجل! وإنما ذكر ما أشار إليه السائل في فصل عقده في كتاب الفروسية، للمفاخرة بين قوس الرجل وقوس اليد، بلسانهما على طريقة الأدباء، فكان مما ذكر قوس اليد ذامًّا لقوس الرجل أنه يشبه الصلبان. وهذا لا يستفاد منه التحريم، بل لا يستفاد منه التفضيل المطلق لقوس اليد، وقد عقد ابن القيم نفسه بعد ذلك فصلا للمفاضلة بينهما، ثم قال: فصل النزاع بين الطائفتين أن قوس اليد أنفع في وقت مصافة الجيوش وملاقاة العدو في الصحراء. وأما قوس الرجل فأنفع وقت حصار القلاع والحصون وأنكى من قوس اليد، وقد يكون الرمي بها من داخل الحصون، وأيضا إلى العدو الخارج أنفع له وأنكى فيه، فلهذه موضع ولهذه موضع. وقوس اليد أعم نفعا، وعلى الرمي بها أكثر الأمم، وأهلها هم الرماة على الحقيقة. اهـ. فهذا كله في باب المفاخرة الأدبية، ثم المفاضلة في الاستعمال!.
وأما الحكم الشرعي فلم يقل أحد من أهل العلم بحرمة استعمال قوس الرجل، وقد نقل ابن القيم نفسه الإجماع على ذلك في الكتاب ذاته، حيث قال: وقد نص الإمام أحمد على جواز المسابقة بالقسي الفارسية، وأباح الرمي بها. وقال أبو بكر من أصحابنا: يكره الرمي بها. واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى مع رجل قوسا فارسية فقال: "ألقها فإنها ملعونة، ولكن عليكم بالقسي العربية وبرماح القنا، فبها يؤيد الله الدين ويمكن الله لكم في الأرض".
والصواب المقطوع به: أنه لا يكره الرمي بها، ولا النضال عليها، وقد انعقد إجماع الأمة على إباحة الرمي بها وحملها. وهي التي يقع بها الجهاد في هذه الأعصار وبها يكسر العدو وبها يعز الإسلام ويرعب المشركون. والمقصود نصرة الدين وكسر أعدائه لا عين القوس وجنسها، وقد قال الله تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] والرمي بهذه القسي من القوة المعدة.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ارموا واركبوا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا" ولم يخص نوعا من نوع، وليس هذا الخطاب مختصا بالصحابة، بل هو لهم وللأمة إلى يوم القيامة، فهو أمر لكل طائفة بما اعتادوه من الرمي والقسي.
والأحاديث التي تقدمت في فضل الرمي وتبليغ العدو بالسهام عامة في كل نوع، فلا يدعى فيها التخصيص بغير موجب. وأما النهي عنها فإن صح نقله فذاك في وقت مخصوص، وهو حين كانت العرب هم عسكر الإسلام وقسيهم العربية، فكلامهم بالعربية وأدواتهم عربية وفروسيتهم عربية، وكان الرمي بغير قسيهم، والكلام بغير لسانهم حينئذ تشبها بالكفار من العجم وغيرهم، فأما في هذه الأزمان فقسي عساكر الإسلام الفارسية أو التركية وكلامهم وأدواتهم وفروسيتهم بغير العربية، فلو كره لهم ذلك ومنعوا منه فسدت الدنيا والدين، وتعطل سوق الجهاد، واستولى الكفار على المسلمين، وهذا من أبطل الباطل ... ومن هذا لو حاصرنا حصنا فقوس الجرخ فيه أنفع من قوس اليد، لكان الرمي بقوس الجرخ أولى من الرمي بقوس اليد، بل كان يتعين .. فكل طائفة من المسلمين الأفضل في حقها أن تقاتل بما اعتادته من القسي والآلات وأنواع الحرب والقتال ... اهـ.
ونقل ابن مفلح في (النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر) عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال: يتناول – يعني قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}- كل ما يستطاع من القوة، فيدخل فيه ما يرمى به، وما يضرب به، وما يطعن به، سواء كان المرمي به سهمًا أو حربة، وسواء كان السهم منفردًا أو جاريًا في مجرى، وسواء كان يؤثر باليد أو بالرجل الذي يسمى الجرخ. اهـ.
وبذلك يعلم السائل أنه ليس كل ما يشبه الصليب يكون له حكم الصليب، ولاسيما إذا اقتضته الصنعة، ولم يقصد صانعه ولا مستعمله هذا الشبه. وراجع للفائدة في ذلك الفتاوى التالية: 317911، 48939، 223927.
والله أعلم.