الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذه المعاملة يمكن ضبطها على أنها من بيع المرابحة للآمر بالشراء، وهو جائز بضوابطه وشروطه التي سبق بيانها في الفتوى رقم: 139582.
ويبقى الإشكال في كون ملاك الشركة التي باعت هذه المواد، هم من ملاك شركة السائل التي اشترت هذه المواد، مع تفاوت السعر بين الصفقتين! والشركة الوسيط هي الطرف الثاني في كلا العقدين. وهذا عكس بيع العينة، وله حكمه عند طائفة من أهل العلم، باعتباره ذريعة للربا؛ لأن السلعة الخارجة من اليد، العائدة إليها، ملغاة. وانظر في ذلك الفتوى رقم: 73242.
وجاء في كتاب المعاملات المالية أصالة ومعاصرة: اختلف العلماء القائلون بتحريم العينة، في عكس مسألة العينة المشهورة: وهو أن يبيع السلعة بثمن حال، ثم يشتريها ممن باعها عليه بأكثر منه إلى أجل. فقيل: يجوز، وهو مذهب الحنفية.
وقيل: لا يجوز، وهو قول في مذهب المالكية، والمشهور من مذهب الحنابلة، رجحه ابن تيمية وابن القيم.
وقيل: يجوز ما لم يكن العاقدان أو أحدهما من أهل العينة، فيتهمان لذلك، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية.
وقيل: يجوز إذا لم يتخذ حيلة، وهو رواية أبي داود عن أحمد.
ولم نتعرض لمذهب الشافعية؛ لأنهم يقولون بجواز العينة مطلقاً. اهـ.
وعلى ما في أصل المسألة من خلاف، فهناك أمر آخر جدير بالملاحظة، وهو أن ذمة الشركة كشخصية اعتبارية، يمكن التفريق بينها وبين الذمة الشخصية للشركاء فيها، وقريب من ذلك قول من جوَّز من أهل العلم لرب المال أن يشتري من المضارب ولو بأجل.
قال الإمام مالك في الموطأ: لا بأس بأن يشتري رب المال ممن قارضه، بعض ما يشتري من السلع، إذا كان ذلك صحيحا على غير شرط. اهـ.
قال الزرقاني في شرحه: بأن لا يتوصل به إلى أخذ شيء من الربح قبل المقاسمة، أو لغير ذلك، سواء اشترى بنقد أو لأجل. اهـ. وقال الباجي: ما لم يكن على وجه الهدية؛ لإبقاء المال بيده، أو ليتوصل بذلك إلى أخذ شيء من الربح قبل المقاسمة، وسواء اشترى منه بنقد أو إلى أجل ... ووجه ذلك أنه اشتراها منه بما يتبايع به الناس، فقد سلما من التهمة ووجوه الفساد، فجاز ذلك بينهما. اهـ.
وقال الكاساني في بدائع الصنائع: يجوز شراء رب المال من المضاربة، وشراء المضارب من رب المال، وإن لم يكن في المضاربة ربح، في قول أصحابنا الثلاثة ... ووجه ذلك أن لرب المال في مال المضاربة ملك رقبة لا ملك تصرف، وملكه في حق التصرف كملك الأجنبي، وللمضارب فيه ملك التصرف لا الرقبة، فكان في حق ملك الرقبة كملك الأجنبي، حتى لا يملك رب المال منعه عن التصرف، فكان مال المضاربة في حق كل واحد منهما كمال الأجنبي، لذلك جاز الشراء بينهما. ولو اشترى المضارب دارا، ورب المال شفيعها بدار أخرى بجنبها، فله أن يأخذ بالشفعة؛ لأن المشتري وإن كان له في الحقيقة لكنه في الحكم كأنه ليس له، بدليل أنه لا يملك انتزاعه من يد المضارب، ولهذا جاز شراؤه من المضارب. اهـ.
ومسألة الشفعة هذه مثال آخر لأثر الفرق بين الشخصية الاعتبارية والشخصية الاعتيادية. وقضية الشخصية الاعتبارية محل بحث وتفصيل بين المعاصرين، وخاصة في أثر التفريق بين الشخصيتين على اختلاف الأحكام الفقهية المتعلقة بهما.
قال الشيخ علي الخفيف في كتاب "الشركات في الفقه الإسلامي": وجملة القول في ذلك: أن نظرية الذمة وما فرع عليها من الأحكام، ليس إلا تنظيمًا تشريعيًا يراد منه ضبط الأحكام واتساقها، وليس إلا أمرا اجتهاديا يصح أن يتغير ويتطور لمقتضيات المعاملات وتطورها، وتغير أحكامها وتنوعها، إذا ما اقتضت المصلحة والعرف ذلك، وليس فيما جاء به الكتاب، ولا فيما أثر من السنة، ما يمنع من أن تفرض الذمة لغير الانسان، وتفسَّر تفسيرًا يتسع لأن تثبت للشركات والمؤسَّسات والأموال العامة. اهـ.
وقد عقد الدكتور عبد العزيز الخياط في كتاب: الشركات في الشريعة الإسلامية، مطلبا في الشخصية المعنوية في الفقه الإسلامي، ختمه بقوله: والخلاصة أن من الواجب؛ جرياً مع مقتضيات المصلحة العامة، أن نعطي الشركة تبعاً لنوعها شخصية اعتبارية. وتكون لها ذمة مستقلة ووجود مستقل. فيكون لها اسم وموطن وجنسية، ويترتب عليها مسؤولية. وليس في الشرع من كتاب أو سنة ما يحول دون ذلك، والعرف والمصلحة والضرورة تقضي به لتستقيم معاملات الناس. اهـ.
وللدكتور القره داغي مبحث عن (ثبوت الشخصية الاعتبارية للشركات في الفقه الإسلامي) في كتابه (بحوث في فقه الزكاة).
والله أعلم.