الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد جاء في سنن الترمذي, وغيره عن معاذ بن جبل، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النبيون والشهداء. صححه الشيخ الألباني.
لكن الحديث لا يفيد أن المتحابين فى الله تعالى أعلى منزلة عند الله تعالى من النبيين, والشهداء, وقد ناقش المسألة بعض شراح الحديث, ونبّه على بعض الدقائق فيها.
جاء في الميسر في شرح مصابيح السنة لشهاب الدين التُّورِبِشْتِي: الغبطة: أن يتمنى الإنسان مثل حال المغبوط، من غير أن يريد زوالها عنه، وهي في الحقيقة عبارة عن حسن الحال، ومنه قولهم: اللهم غبطاً لا هبطاً، أي: نسألك الغبطة، ونعوذ بك أن نهبط. فإن قيل: على أيِّ وجه نتصور ذلك في أنفسنا، وقد عرفنا من أصل الدين أن المؤمن المستعد لثواب الله في الدار الآخرة معصوم عن الحرة، والتلهف، والتطلع إلى ما ليس له، والغبطة لا تخلو عن شيء من ذلك؟
قلنا: مراد النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، بيان فضل المتحابين، وأن الله يحلهم من الكرامة محلاً يقع ممن فوقهم في المنزلة بمحل الشيء المغبوط به؛ لأن النفوس الصالحة المستعدة لنيل ثواب الله لا يبقى فيها تنازع وتطلع إلى ما ليس لها، ولا ينبغي لها من المرتبة.
فإن قيل: فهل يلزم من ذلك أن المغبوطين ينالون من المرتبة ما لا يناله ذوو الغبطة؟ قلنا: لا، ونظير ذلك الرجل له من المماليك ألف، ولآخر واحد، وصاحب الألف يريد أن لو كان له مثل ذلك الواحد أيضاً، فلا يلزم من ذلك أن صاحب الفرد، أتم غنى من صاحب الألف.
فإذا قيل: فلِمَ لم يُؤتَ الأنبياء والشهداء مثل ما أوتي أولئك؟
قلنا: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقدر تقديراً، يبين به مقدار تلك الفضيلة، فقدر ذلك في فئتين اختارهم الله بفضله، وأكرمهم برحمته.
فأما الشهداء فيقدر فيهم أن المرادين بذلك هو الذين -وإن- بلغوا رتبة الشهادة، فإنهم لم يعاملوا الله سبحانه بتلك المعاملة، فلما وردوا القيامة، ورأوا قربهم من الله، أحبوا أن لو أنهم عاملوا الله بمثل معاملتهم، وذلك لأن التحاب في الله غير ذلك، وهو أنهم أحبوا الاتباع دون ما أحبوا هم؛ فكان قسط الأتباع في حبهم في الله إياهم أوفى وأوفر من قسط الأنبياء. وذلك لأن التحاب في الله إنما يقع على قدر المنزلة والقرب من الله، ولما كان الأنبياء أحب إلى الله من الأتباع، لم يكن للأنبياء أن يتعدوا سنة الله فيهم، بل وجب عليهم أن يحبوا أنفسهم في موافقة الحق سبحانه فوق ما يحبون أنفس الأتباع، وعلى الأتباع أن يحبوهم فوق ما يحبون أنفسهم، فصار قسطهم من هذه المنزلة أوفى وأوفر من قسط الأنبياء من الوجه الذي ذكرناه؛ فلهذا اغتبطوهم، وهذا معنى دقيق وقع لي من طريق الفهم". انتهى.
وفي مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للهروي القاري: وقال القاضي: كل ما يتحلى به الإنسان، أو يتعاطاه من علم وعمل، فإن له عند الله منزلة لا يشاركه فيه صاحبه ممن لم يتصف بذلك، وإن كان له من نوع آخر ما هو أرفع قدرا وأعز ذخرا، فيغبطه بأن يتمنى ويحب أن يكون له مثل ذلك، مضموما إلى ما له من المراتب الرفيعة والمنازل الشريفة، وذلك معنى قوله: يغبطهم النبيون والشهداء، فإن الأنبياء قد استغرقوا فيما هو أعلى من ذلك من دعوة الخلق، وإظهار الحق، وإعلاء الدين، وإرشاد العامة والخاصة، إلى غير ذلك من كليات أشغلتهم عن العكوف على مثل هذه الجزئيات، والقيام بحقوقها. انتهى.
وقال الطيبي في الكاشف عن حقائق السنن: والظاهر أنه لم يقصد في ذلك إثبات الغبطة لهم على حال هؤلاء، بل بيان فضلهم وعلو شأنهم وارتفاع مكانتهم وتقريرها على أكمل وجه وأبلغه، والمعنى أن حالهم عند الله تعالى يوم القيامة بمثابة، لو غبط النبيون والشهداء يومئذ - مع جلالة قدرهم ونباهة أمرهم - حال غيرهم، لغبطوهم. أقول: يمكن أن تحمل الغبطة هنا على استحسان الأمر المرضي المحمود فعله؛ لأنه لا يغبط إلا في الأمر المحمود المرضي؛ فإن الأنبياء والشهداء صلوات الله عليهم يحمدون إليهم فعلهم، ويرضون عليهم فيما تحروا من المحبة في الله. انتهى والله أعلم.