الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
فقد سبق أن بينا في عدة فتاوى وجوب إنكار المنكر لمن حضره وشاهده، فإن لم يزل المنكر، فإنه يفارق مجلسه، وما دل عليه قوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ {النساء:140} من مفارقة مكان المعصية ليس خاصا بمعصية الكفر أو السخرية بآيات الله، بل كل معصية يجب على من حضرها أن يفارق المكان إذا لم يزلِ المنكرُ بإنكاره، وقد قال ابن جرير في تفسيره لهذه الآية: وفي هذه الآية، الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع، من المبتدعة والفسَقة، عند خوضهم في باطلهم. ... اهــ .
والاستهزاء بآيات الله ليس محصورا بالسخرية بها، فقد يطلق الاستهزاء على مخالفة أحكام الله، وعدم مراعاتها، فيصير مخالفها كالمستهزئ بها، كما قال الزجاج في أحكام القرآن في تفسير قوله تعالى: وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا {البقرة:231} أي لا تَتْركُوا العَمل بما حدَّد اللَّه لكم فتكونوا مقصرين لاعبين، كما تقول للرجل الذي لا يقوم بما يكلفه، - ويتَوَانى فيه: إنما أنت لاعب . اهـــ
ومثله قول صاحب التحرير والتنوير: المستخف بالشيء المهم يعد لاستخفافه به، مع العلم بأهميته، كالساخر واللاعب. .. اهــ.
فالعاصي لما وقع في محارم الله، وارتكب المنكر، ولم يتركه بعد النصيحة، فإنه مستهزئ بهذا المعنى ولو لم يكن ساخرا في الأصل، ولا معصيته كفرا، فيشرع مفارقته وعدم القعود معه.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على مائدة يدار عليها الخمر، وترك أبو أيوب حضور عرس سالم بن عبد الله بن عمر لما رآهم قد كسوا الجدر بالستور، ودلائل هذه المسألة ونصوص العلماء عليها أكثر وأوضح من أن نطول بذكرها، وانظر الفتوى رقم: 173313 ، و الفتوى رقم: 226435، والفتوى رقم: 223714، والفتوى رقم: 341662 ، وأخيرا الفتوى رقم: 368344 .
والله تعالى أعلم.