الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن عليك أن تحمد الله تعالى على توفيقه لك بكثرة دعائه واستغفاره، وذكره سبحانه وتعالى؛ فهذه نعمة عظيمة يغفل عنها كثير من الناس، ولتبشر بخير ما دمت على هذا الحال؛ فالدعاء أساس العبادة، ومن لازم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب، وذكر الله تعالى يحيي القلب، ويفتح أبواب الخير.
وأما الدعاء دون مباشرة الأسباب المادية الظاهرة، فلا حرج فيه، ولا تتوقف إجابته على الأخذ بها؛ لأن الدعاء في حد ذاته سبب من أعظم أسباب التي يتحقق بها المطلوب. قال ابن القيم في الداء والدواء: المقدور قدر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجردا عن سببه، ولكن قدر بسببه، فمتى أتي العبد بالسبب، وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب، انتفى المقدور. وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه، وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال، ودخول النار بالأعمال ... فَالدُّعَاءُ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ، فَإِذَا قُدِّرَ وُقُوعُ الْمَدْعُوِّ بِهِ بِالدُّعَاءِ، لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ: لَا فَائِدَةَ فِي الدُّعَاءِ، كَمَا لَا يُقَالُ: لَا فَائِدَةَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَجَمِيعِ الْحَرَكَاتِ وَالْأَعْمَالِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْأَسْبَابِ أَنْفَعَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَلَا أَبْلَغَ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ.اهـ.
وقال في الجواب الكافي: الدعاءُ مِنْ أقوى الأسباب، فليس شيءٌ أنفع منه، فمتى أُلْهِمَ العبدُ الدعاءَ، حصَلَتِ الإجابة. اهـ.
وقال أيضا: إذا كان للداعي نفس فعالة، وهمة مؤثرة، فيكون -الدعاء- حينئذ من أقوى الأسباب في دفع النوازل والمكاره، وحصول المآرب والمطالب. اهـ.
مع أن السعي والأخذ بالأسباب المادية الظاهرة المشروعة، لا يتنافى مع الدعاء والاعتماد على الله تعالى؛ فالمسلم مطالب بأخذ الأسباب مهما كانت، وعدم الاعتماد عليها أساسا؛ فمن سنن الله الثابتة في هذا الكون ترتيب النتائج على الأسباب، وقد استدل أهل العلم على ذلك بآيات من كتاب الله، وأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها قول الله تعالى لمريم عليها السلام وهي في حالة ولادة: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا {مريم:25}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي في شأن ناقته: أعقلها وتوكل.. رواه الترمذي وغيره وحسنه الألباني.
وجاء في الأداب الشرعية لابن مفلح: قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ -رَحِمَهُ اللَّهُ -: اللَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّبَبَ وَالْمُسَبِّبَ، وَالدُّعَاءُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يُقَدِّرُهَا، فَالِالْتِفَاتُ إلَى الْأَسْبَابِ شِرْكٌ فِي التَّوْحِيدِ، وَمَحْوُ الْأَسْبَابِ أَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا نَقْصٌ فِي الْعَقْلِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَسْبَابِ بِالْكُلِّيَّةِ قَدْحٌ فِي الشَّرْعِ. اهـ.
والله أعلم.