الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فسبب هذا الإشكال هو الخلط بين مسألة الذكر الجماعي من جهة، وبين مسألة الاجتماع على الذكر، والجهر به، من جهة أخرى، فالذكر الجماعي بصوت واحد على هيئة معتادة دبر كل صلاة: من البدع المحدثة، وأما جهر كل مصل بالتكبير والذكر دبر الصلوات المكتوبات، فهو من السنة، وكذلك اجتماع بعض المسلمين في المسجد أو غيره من الأماكن لتسبيح الله تعالى وتكبيره وتمجيده والثناء عليه ودعائه وتلاوة كتابه: عمل مشروع، إذا لم يكن ذلك على هيئة مخصوصة ولم يتخذ عادة، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 8381.
وسئل الشيخ ابن باز: عن حكم الذكر الجماعي بعد الصلاة على وتيرة واحدة كما يفعله البعض، وهل السنة الجهر بالذكر أو الإسرار؟ فأجاب بقوله: السنة الجهر بالذكر عقب الصلوات الخمس وعقب صلاة الجمعة بعد التسليم، لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته، أما كونه جماعيا بحيث يتحرى كل واحد نطق الآخر من أوله إلى آخره وتقليده في ذلك، فهذا لا أصل له، بل هو بدعة، وإنما المشروع أن يذكروا الله جميعا بغير قصد لتلاقي الأصوات بدءا ونهاية. اهـ.
وقال الشيخ ابن عثيمين: أداء هذا الذكر جماعة بدعة، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه لم يكونوا يفعلون ذلك، بل كلُّ يذكر على نفسه، لكنهم يجهرون. اهـ.
والأحاديث التي ذكرها السائل إنما هي في الجهر بالذكر والاجتماع عليه أحيانا، وليست في الذكر الجماعي! وقد سبق لنا التفريق بين الذكر الجماعي وبين الاجتماع للذكر، وذلك في الفتوى رقم: 50497.
وقال الشيخ الدكتور محمد بن عبد الرحمن الخميس في كتابه: الذكر الجماعي بين الاتباع والابتداع ـ هذه الأحاديث لم تدل على الذكر الجماعي واستحبابه، وإنما هي دالة على استحباب الاجتماع على ذكر الله، وهناك فرق كبير بين هذا وذاك، فالاجتماع على ذكر الله مستحب مندوب إليه بمقتضى الأحاديث الواردة في فضله، ولكن على الوجه المشروع الذي فهمه الصحابة وعملوا به، فقد كانوا يجتمعون للذكر كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم يقرأ، والناس يستمعون، وكان عمر يقول لأبي موسى: ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم ويستمعون لقراءته. اهـ.
وقال الشيخ ابن عثيمين: الصواب في هذا الموضوع أن الحديث الذي أشار إليه السائل بل الحديثين في الذين يتدارسون كتاب الله ويتلونه، وكذلك في القوم الذين يذكرون الله: أن هذا مطلق، فيحمل على المقيد المتعارف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يكن من المتعارف بينهم أنهم يذكرون الله تعالى بلفظ جماعي، أو يقرؤون القرآن بلفظ جماعي... وأما الحديث الآخر الذي فيه أنهم يذكرون الله تعالى، فإنا نقول: هذا مطلق، فيحمل على ما كان متعارفاً عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يكن متعارفاً بينهم أن يجتمعوا وأن يذكروا بذكر واحد جماعة، ويدلك على هذا أن الصحابة ـ رضوان الله عنهم ـ مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحج، كان منهم المكبر، ومنهم المهلل ومنهم الملبي، فكل إنسان يذكر الله تعالى بنفسه، وأما قوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ـ فهذا مراد به الذكر الخاص للمرء، وهو أيضاً مخصوص بما دلت عليه السنة من الجهر به، فإنه قد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا يشرع الجهر بالذكر بعد الصلاة المكتوبة، لأن هذا هو المعروف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ.
والله أعلم.