الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يوفقك، وأن يرزقنا وإياك حسن النية، ولا ريب في أن العمل الذي ينوي به العبد عدة نيات صالحة، يعظم بذلك أجره؛ لذا أوصى العلماء باستحضار أكبر قدر من النيات الحسنة في العمل، ليتضاعف بذلك الثواب، ومن أعظم ما يعين على ذلك: يقظة قلب العبد، وحرصه على الخير، وكذلك العلم بما يناسب العمل المعين من النيات الصالحة؛ لذا قال بعضهم: النية تجارة العلماء.
وأما نية دخول الفردوس الأعلى، وابتغاء مرضات الله جل وعلا، فلا ينبغي أن تغيب عن قلب المسلم أبدا.
وننقل هنا كلاما نفيسا لأبي حامد الغزالي، يبين فيه أثر كثرة النيات الصالحة على الطاعات والمباحات، وكيفية تحصيلها.
يقول رحمه الله: فإذن قوله عليه السلام: إنما الأعمال بالنيات، يختص من الأقسام الثلاثة بالطاعات، والمباحات دون المعاصي، إذ الطاعة تنقلب معصية بالقصد، والمباح ينقلب معصية وطاعة بالقصد. فأما المعصية، فلا تنقلب طاعة بالقصد أصلا، نعم، للنية دخل فيها، وهو أنه إذا انضاف إليها قصود خبيثة، تضاعف وزرها، وعظم وبالها.
القسم الثاني: الطاعات، وهي مرتبطة بالنيات في أصل صحتها، وفي تضاعف فضلها. أما الأصل، فهو أن ينوي بها عبادة الله تعالى لا غير، فإن نوى الرياء، صارت معصية. وأما تضاعف الفضل، فبكثرة النيات الحسنة؛ فإن الطاعة الواحدة، يمكن أن ينوي بها خيرات كثيرة، فيكون له بكل نية ثواب إذ كل واحدة منها حسنة، ثم تضاعف كل حسنة عشر أمثالها، كما ورد به الخبر.
ومثاله القعود في المسجد: فإنه طاعة، ويمكن أن ينوي فيه نيات كثيرة، حتى يصير من فضائل أعمال المتقين، ويبلغ به درجات المقربين.
أولها: أن يعتقد أنه بيت الله، وأن داخله زائر الله، فيقصد به زيارة مولاه، رجاء لما وعده به رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: من قعد في المسجد فقد زار الله تعالى، وحق على المزور أن يكرم زائره.
وثانيها: أن ينتظر الصلاة بعد الصلاة، فيكون في جملة انتظاره في الصلاة، وهو معنى قوله تعالى: {ورابطوا}.
وثالثها: الترهب، بكف السمع، والبصر، والأعضاء عن الحركات، والترددات؛ فإن الاعتكاف كف، وهو في معنى الصوم، وهو نوع ترهب.
ورابعها: عكوف الهم على الله، ولزوم السر للفكر في الآخرة، ودفع الشواغل الصارفة عنه بالاعتزال إلى المسجد.
وخامسها: التجرد لذكر الله، أو لاستماع ذكره، وللتذكر به. كما روي في الخبر: من غدا إلى المسجد ليذكر الله تعالى، أو يذكر به، كان كالمجاهد في سبيل الله تعالى.
وسادسها: أن يقصد إفادة العلم بأمر بمعروف، ونهي عن منكر؛ إذ المسجد لا يخلو عمن يسيء في صلاته، أو يتعاطى ما لا يحل له، فيأمره بالمعروف، ويرشده إلى الدين، فيكون شريكا معه في خيره الذي يعلم منه، فتتضاعف خيراته.
وسابعها: أن يستفيد أخا في الله، فإن ذلك غنيمة، وذخيرة للدار الآخرة، والمسجد معشش أهل الدين المحبين لله، وفي الله.
وثامنها: أن يترك الذنوب حياء من الله تعالى، وحياء من أن يتعاطى في بيت الله ما يقتضي هتك الحرمة، فهذا طريق تكثير النيات، وقس به سائر الطاعات والمباحات، إذ ما من طاعة إلا وتحتمل نيات كثيرة، وإنما تحضر في قلب العبد المؤمن بقدر جده في طلب الخير، وتشمره له، وتفكره فيه، فبهذا تزكو الأعمال، وتتضاعف الحسنات.
القسم الثالث: المباحات، وما من شيء من المباحات إلا ويحتمل نية، أو نيات يصير بها من محاسن القربات، وينال بها معالي الدرجات. فما أعظم خسران من يغفل عنها، ويتعاطاها تعاطي البهائم المهملة عن سهو، وغفلة. ولا ينبغي أن يستحقر العبد شيئا من الخطرات، والخطوات، واللحظات، فاستعمال الطيب مباح، ولكن لا بد فيه من نية، فإن قلت: فما الذي يمكن أن ينوي بالطيب، وهو حظ من حظوظ النفس، وكيف يتطيب لله؟
فاعلم أن من يتطيب مثلا يوم الجمعة، وفي سائر الأوقات يُتصور أن يقصد التنعم بلذات الدنيا، أو يقصد به إظهار التفاخر بكثرة المال؛ ليحسده الأقران، أو يقصد به رياء الخلق، ليقوم له الجاه في قلوبهم، ويذكر بطيب الرائحة، أو ليتودد به إلى قلوب النساء الأجنبيات إذا كان مستحلا للنظر إليهن، ولأمور أخرى لا تحصى. وكل هذا يجعل التطيب معصية، فبذلك يكون أنتن من الجيفة في القيامة، إلا القصد الأول، وهو التلذذ والتنعم، فإن ذلك ليس بمعصية، إلا أنه يُسأل عنه، ومن نوقش الحساب عذب، ومن أتى شيئا من مباح الدنيا لم يعذب عليه في الآخرة، ولكن ينقص من نعيم الآخرة له بقدره، وناهيك خسرانا بأن يستعجل ما يفنى، ويخسر زيادة نعيم لا يفنى.
وأما النية الحسنة: فإنه ينوي به اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، وينوي بذلك أيضا تعظيم المسجد، واحترام بيت الله، فلا يرى أن يدخله زائرا لله إلا طيب الرائحة، وأن يقصد به ترويح جيرانه؛ ليستريحوا في المسجد عند مجاورته بروائحه، وأن يقصد به دفع الروائح الكريهة عن نفسه التي تؤدي إلى إيذاء مخالطيه، وأن يقصد حسم باب الغيبة عن المغتابين إذا اغتابوه بالروائح الكريهة، فيعصون الله بسببه، وأن يقصد به معالجة دماغه لتزيد به فطنته، وذكاؤه، ويسهل عليه درك مهمات دينه بالفكر، فقد قال الشافعي رحمه الله: من طاب ريحه، زاد عقله. فهذا وأمثاله من النيات، لا يعجز الفقيه عنها إذا كانت تجارة الآخرة، وطلب الخير غالبة على قلبه، وإذا لم يغلب على قلبه إلا نعيم الدنيا، لم تحضره هذه النيات، وإن ذكرت له، لم ينبعث لها قلبه، فلا يكون معه منها إلا حديث النفس، وليس ذلك من النية في شيء. والمباحات كثيرة، ولا يمكن إحصاء النيات فيها، فقس بهذا الواحد ما عداه؛ ولهذا قال بعض العارفين من السلف: إني أستحب أن يكون لي في كل شيء نية، حتى في أكلي، وشربي، ونومي، ودخولي إلى الخلاء، وكل ذلك مما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله تعالى؛ لأن كل ما هو سبب لبقاء البدن، وفراغ القلب من مهمات البدن، فهو معين على الدين، فمن قصده من الأكل التقوي على العبادة، ومن الوقاع تحصين دينه، وتطييب قلب أهله، والتوصل به إلى نسل صالح يعبد الله تعالى بعده، فتكثر به أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كان مطيعا بأكله، ونكاحه، وأغلب حظوظ النفس الأكل، والوقاع، وقصد الخير بهما غير ممتنع لمن غلب على قلبه هم الآخرة .اهـ. باختصار من إحياء علوم الدين.
وراجعي للفائدة الفتوى رقم: 294334، والفتوى رقم: 282406 .
والله أعلم.