الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحكم في الجراحات الطبية تابع لغلبة الظن بالسلامة أو بالهلاك، وهذا سبق بيانه في الفتوى رقم: 215272.
وأما إذا استوى الطرفان وتعادل الاحتمالان، ففي مشروعيتها خلاف بين أهل العلم، وقد تناول الشيخ الدكتور محمد المختار الشنقيطي في رسالته العلمية: أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها ـ هذه المسألة، فقال: هل يجوز إجراء الجراحة عند استواء الاحتمالين ..... الجواب: أن الذي يظهر هو القول بالتوقف، والامتناع عن فعل الجراحة حتى يترجح أحد الاحتمالين على الآخر، فمن ثم يقدم بعده على فعلها أو يحجم بحسب ذلك الظن الراجح، وقد أشار الإمام العز بن عبد السلام إلى ذلك بقوله رحمه الله: وكما لا يحل الإقدام للمتوقف في الرجحان في المصالح الدينية حتى يظهر له الراجح، فكذلك لا يحل للطبيب الإقدام مع التوقف في الرجحان إلى أن يظهر له الراجح ـ فبين ـ رحمه الله ـ أنه يجب على الطبيب أن يتوقف عن المداواة في حال عدم ترجح احتمال السلامة وعدمها قياسًا على التوقف في المصالح الدينية وهذا الحكم نص على خلافه بعض فقهاء الحنفية، ففي الفتاوى الهندية ما نصه:... في الجراحات المخوفة، والقروح العظيمة، والحصاة الواقعة في المثانة ونحوها، إن قيل: قد ينجو وقد يموت، أو ينجو ولا يموت ـ يعالج، وإن قيل: لا ينجو أصلاً، لا يداوى، بل يترك، كذا في الظهيرية ـ فظاهر هذه العبارة جواز فعل الجراحة عند استواء الاحتمالين وذلك لقوله: قد ينجو، وقد يموت... يعالج ـ والقول بالتوقف الذي سبقت حكايته عن الإمام العز بن عبد السلام ـ رحمه الله ـ أولى بالاعتبار، لصحة قياسه، ثم إنه يقوى بالأصل، فالجراحة الأصل فيها أنها محرمة، وإنما جازت لمكان المصلحة المترتبة على فعلها، فإذا أصبحت مترددة بين المصلحة والمفسدة، رجح جانب المفسدة بالأصل الموجب للمنع، أو نقول سقط اعتبار المصلحة والمفسدة، ورجع إلى حكم الأصل الموجب للمنع. اهـ.
وإذا اختار الطبيب والمريض أو وليه القول بالجواز، ولاسيما إذا غلب على الظن حصول الهلاك بسبب ترك الجراحة فأقدموا على إجرائها، فهلك المريض، فلا ضمان على الطبيب، لأن فعله مأذون فيه، فلا يضمن إلا بالتعدي على الراجح من أقوال أهل العلم، قال ابن القيم في زاد المعاد: طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها ولم تجن يده، فتولد من فعله المأذون فيه من جهة الشارع ومن جهة من يطبه، تلف العضو أو النفس، أو ذهاب صفة، فهذا لا ضمان عليه اتفاقا، فإنها سراية مأذون فيه ... وهكذا سراية كل مأذون فيه لم يتعد الفاعل في سببها، كسراية الحد بالاتفاق، وسراية القصاص عند الجمهور، خلافا لأبي حنيفة في إيجابه الضمان بها، وسراية التعزير، وضرب الرجل امرأته، والمعلم الصبي والمستأجر الدابة، خلافا لأبي حنيفة والشافعي في إيجابهما الضمان في ذلك، واستثنى الشافعي ضرب الدابة، وقاعدة الباب إجماعا ونزاعا: أن سراية الجناية مضمونة بالاتفاق، وسراية الواجب مهدرة بالاتفاق، وما بينهما ففيه النزاع، فأبو حنيفة أوجب ضمانه مطلقا، وأحمد ومالك أهدرا ضمانه، وفرق الشافعي بين المقدر فأهدر ضمانه، وبين غير المقدر فأوجب ضمانه، فأبو حنيفة نظر إلى أن الإذن في الفعل إنما وقع مشروطا بالسلامة، وأحمد ومالك نظرا إلى أن الإذن أسقط الضمان، والشافعي نظر إلى أن المقدر لا يمكن النقصان منه، فهو بمنزلة النص. اهـ.
والله أعلم.