الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فبداية نقرر أن كل ما يتطلب إعمال فكر، ويحتاج إلى رسوخ فهم، وطول باع في النظر، لا يسوغ إسناده إلى غير أهله المتمكنين منه، وعلى هذا اتفق العقلاء! وأولى ما ينطبق عليه ذلك: هو الكلام في دين الله تعالى، وأحكام شريعته، فلا يجوز الخوض فيها بغير علم، ولا يصح أن يُسأَل عنها، أو يُرجَع فيها إلا للعلماء الذين هم ورثة الأنبياء، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بخط وافر. رواه أبو داود، وابن ماجه، وأحمد، وابن حبان، وصححه الألباني.
فإذا ضاع هذا الأصل، وتكلم في دين الله تعالى غير العلماء، حصل الضلال المبين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا، ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالما، اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا، وأضلوا. رواه البخاري، ومسلم.
والمقصود أن قضايا العلم، ومسائل الشرع لا يجوز لغير أهل العلم أن يخوضوا فيها، وإلا اتبعنا بذلك خطوات الشيطان، كما قال عز وجل: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء/83].
قال السعدي: في هذا دليل لقاعدة أدبية، وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور، ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك، ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب، وأحرى للسلامة من الخطأ. اهـ.
وأما جواب السائل، فنقول: صحيح أن الله تعالى قد أمرنا بالاعتصام بحبله جميعا، ونهانا عن التفرق والاختلاف، كما في قوله سبحانه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا {آل عمران:103}. وقال: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {آل عمران:105}.
ولكن في الوقت نفسه، قد أخبر الله عز وجل في كتابه أن الخلاف بين البشر أمر لا مناص منه، والسعيد هو من اتخذ لنفسه حجة تنفعه غدا بين يدي الله، ولا يمكن ذلك إلا بالاعتصام بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واتباع من زكَّاهم الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ [هود:118-119].
قال ابن كثير: قوله: { إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } أي: إلا المرحومين من أتباع الرسل، الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين الذي أخبرتهم به رسل الله إليهم، ولم يزل ذلك دأبهم، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم الأمي، خاتم الرسل والأنبياء، فاتبعوه وصدقوه، ونصروه، ووازروه، ففازوا بسعادة الدنيا، والآخرة؛ لأنهم الفرقة الناجية، كما جاء في الحديث المروي في المسانيد، والسنن، من طرق يشد بعضها بعضا: "إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن النصارى افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة واحدة". قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي". رواه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة. اهـ.
وراجع الكلام على حديث افتراق الأمة، ومعناه، ورتبته في الفتاوى التالية أرقامها: 12682، 210628، 52059.
وأما قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ {الأنعام : 159}.
فقال ابن كثير في تفسيره: الآية عامة في كل من فارق دين الله، وكان مخالفا له، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه، ولا افتراق، فمن اختلف فيه {وكانوا شيعا} أي: فرقا كأهل الملل والنحل -وهي الأهواء، والضلالات- فالله قد برأ رسوله مما هم فيه. وهذه الآية كقوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [الشورى:13]. وفي الحديث: "نحن معاشر الأنبياء أولاد علات، ديننا واحد". فهذا هو الصراط المستقيم، وهو ما جاءت به الرسل، من عبادة الله وحده لا شريك له، والتمسك بشريعة الرسول المتأخر، وما خالف ذلك فضلالات، وجهالات، وآراء، وأهواء، الرسل برآء منها، كما قال: {لست منهم في شيء}. اهـ.
وأما عدم الانتساب للمذهب السني، أو غيره من حيث اللفظ، مع التمسك باسم الإسلام، فهذا يقبل في حال، ولا يقبل في أخرى! ففي حال اجتماع الناس على معنى الإسلام الذي ينتسبون إليه، فلا حاجة للانتساب إلى غيره من الألقاب.
وأما إذا اختلف الناس في معنى الإسلام الذي ينتسبون إليه، وتمسكت كل طائفة بما هي عليه، وأصرت على كونه هو الصواب، فلا يكفي المرء حينئذ أن ينتسب للإسلام، وهذا أمر بيِّنٌ لمن تدبره.
وبعبارة أخرى فإنه عند انحراف طائفة مبتدعة، وطعنها في أصول الدين، وإعراضها عن سبيل المؤمنين، وسبِّها لأفاضل الأمة، وأكابرها، وقادتها بالباطل، بل وتكفيرها لهم، فههنا لا يسع المرء إلا أن يتبرأ منهم، ويظهر مخالفته لهم. وقد قال الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا. [النساء: 115].
وأما طلب السائل أن لا نستدل إلا بالقرآن، فهو طلب في غير محله، ومبناه على فهم خاطئ لمكانة السنة، وأهميتها في فهم القرآن، وتطبيق أحكامه، وجهود أهل العلم في تمييزهم بين ما صح منها، مما لم يصح.
وعلى أية حال، فليعلم السائل أن الله تعالى قد حفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، حفظاً لكتابه المجيد، ولا يمكن أن تتعارض السنة المحفوظة، مع القرآن الكريم، إلا كما يمكن أن تتعارض آيات القرآن بعضها مع بعض، وذلك في فهم بعض الناس لا في حقيقة الأمر، وعندئذ فأهل العلم يبينون المشكل من ذلك، ويوضحون مقاصده.
وراجع للفائدة عن ذلك الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 31742، 4588، 190683، 132402، 28205.
والله أعلم.