الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فليس هناك شيء اسمه: تحديث المحدث عن نفسه ! وما يقع في كتب الحديث من ذكر اسم المصنف في الإسناد مسبوقا بصيغة من صيغ الأداء ـ كالتحديث أو الإخبار ـ فهو من قول الراوي عنه.
وبالنسبة لمسند ابن راهويه، فالراوي عنه هو الإمام الحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن شيرويه القرشي، قال الذهبي في ترجمته من (السير): سمع المسند كله من إسحاق. اهـ.
وقد وقع التصريح بإسناد مسند إسحاق في مواضع من المطبوع، وذلك بحسب اختلاف مجالس السماع، ومنها في مسند أبي هريرة (1/ 244)، ولفظه: "أنبأنا أبو محمد هبة الله بن سعيد بن هبة الله بقراءتي عليه في سنة أربع وثلاثين وخمسمائة، قال: أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن محمد بن محمد الصفار قراءة سنة ست وستين وأربعمائة، قال: أنبأنا أبو سعيد عبد الرحمن بن حمدان النصروي، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن علي بن زياد السِّمِّذِيُّ، قال: أنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن شيرويه، قال: حدثنا الإمام أبو يعقوب إسحاق بن راهويه الحنظلي، أخبرنا عيسى بن يونس ... " فذكر حديثا.
فإذا وجدت في الكتاب حديثا مصدرا بعبارة: "أخبرنا الإمام أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المروزي" أو عبارة: " قال الإمام أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي" فهي من كلام ابن شيرويه.
وأما المثال المذكور من صحيح البخاري فهو موضع خلاف وإشكال قديم، ففي باب ذكر الملائكة من كتاب بدء الخلق من صحيح البخاري: "حدثنا محمد حدثنا ابن أبي مريم أخبرنا الليث حدثنا ابن أبي جعفر عن محمد بن عبد الرحمن عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الملائكة تنزل في العنان ... الحديث ".
فاختلف أهل العلم في محمد هذا ، سواء في إثبات هذه اللفظة في الإسناد أصلا، أو في تعيين المراد بها وتسميته! فأما المزي فمشى في (تحفة الأشراف 12/ 25) على أن محمدا هذا هو البخاري نفسه، فقال: حديث "إن الملائكة تنزل في العنان - وهو السحاب - فتذكر الأمر قُضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع ... " الحديث. البخاري في بدء الخلق عن سعيد بن أبي مريم، عن الليث .. اهـ.
وهذا ما رجحه الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر الخلاف في شرح هذا الموضع من (فتح الباري 6/ 309) فقال: قال الجياني: محمد هذا هو الذهلي. كذا قال، وقد قال أبو ذر بعد أن ساقه: محمد هذا هو البخاري. وهذا هو الأرجح عندي، فإن الإسماعيلي وأبا نعيم لم يجدا الحديث من غير رواية البخاري فأخرجاه عنه، ولو كان عند غير البخاري لما ضاق عليهما مخرجه. اهـ.
وتعقبه العيني في (عمدة القاري) فقال: عدم وجدان الإسماعيلي وأبي نعيم الحديث لا يستلزم أن يكون محمد هنا البخاري، وهذا ظاهر لا يخفى على أحد، ولم يجر للبخاري العادة بأن يذكر اسمه قبل ذكر شيخه بقوله: حدثنا محمد، وذكر في (رجال الصحيحين): محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس بن ذؤيب أبو عبد الله الذهلي النيسابوري في فصل: أفراد البخاري، فيمن اسمه محمد، وقال: روى عنه البخاري في قريب من ثلاثين موضعا ولم يقل: حدثنا محمد بن يحيى الذهلي مصرحا، ويقول: حدثنا محمد، ولا يزيد عليه، ويقول: محمد بن عبد الله، ينسبه إلى جده، ويقول: حدثنا محمد بن خالد، ينسبه إلى جد أبيه، والسبب في ذلك أن البخاري لما دخل نيسابور شغب عليه محمد بن يحيى الذهلي في مسألة خلق اللفظ، وكان قد سمع منه فلم يترك الرواية عنه ولم يصرح باسمه. اهـ.
وذكر القسطلاني تعقب العيني في (إرشاد الساري 5/ 268) وكأنه رضيه.
وقد نقل الحافظ ابن حجر نفسه ما يقوي هذا الاحتمال في (هدي الساري ص 237) في فصل تبيين الأسماء المهملة التي يكثر اشتراكها، حيث قال: قال في بدء الخلق: "حدثنا محمد حدثنا بن أبي مريم". كذا وقع في رواية أبي ذر عن أبي الهيثم، وسقط في رواية الباقين ذكر محمد، جعلوه عن البخاري عن سعيد بن أبي مريم، فإن كان أبو الهيثم حفظه فهو الذهلي كما قدمناه، أنه روى في تفسير سورة الكهف عن محمد بن عبد الله، عن ابن أبي مريم، وأن الحاكم جزم بأنه الذهلي. والله أعلم اهـ.
وقد وقع في صحيح البخاري التصريح باسم المصنف في كلام راوي الصحيح عنه، وهو محمد بن يوسف بن مطر الفربري، كما وقع التصريح باسم الفربري في كلام الرواة عنه كأبي الهيثم الكُشْمِيهَني وأبي علي بن السكن وأبي إسحاق المستملي. ومن ذلك ما جاء في الصحيح في: (باب ما جاء في العلم): "أخبرنا محمد بن يوسف الفربري وحدثنا محمد بن إسماعيل البخاري قال: حدثنا عبيد الله بن موسى عن سفيان قال: إذا قرئ على المحدث فلا بأس أن يقول حدثني".
وما جاء في كتاب أحاديث الأنبياء: "قال محمد بن يوسف الفربري: ذكر عن أبي عبد الله، عن قبيصة، قال: هم المرتدون الذين ارتدوا على عهد أبي بكر فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه".
قال العيني في (عمدة القاري16/ 38): أبو عبد الله هو البخاري نفسه. اهـ.
وعلى هذا نص الشراح كابن الملقن وابن حجر والقسطلاني.
والله أعلم.