الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فما وقع في الحديثين اللذين ذكرتهما في سؤالك ليس إسقاطا للألفاظ، ولا تلاعبا بها، ولا قدحا في صحتها، وإنما هو إبهام لها، وهذا الإبهام ليس من صنيع البخاري ولا من يطبعون الكتب، وإنما هو من رواة السند، فأما الحديث الأول: فقد تكلم عليه الحافظ ابن حجر العسقلاني، وبين أن الذي أبهم ذلك إنما هو أحد رواة الحديث وليس البخاري، مستدلا على ذلك بوقوعه مبهما عند غير البخاري من طريق نفس ذلك الراوي، وكأن الذي دفعه إلى ذلك هو استعظام ما فعله ابن مسعود من حكه سور القرآن العظيم، قال ابن حجر في فتح الباري: قَوْله: يَقُول كَذَا وَكَذَا ـ هَكَذَا وَقَعَ هَذَا اللَّفْظ مُبْهَمًا, وَكَأَنَّ بَعْض الرُّوَاة أَبْهَمَهُ اِسْتِعْظَامًا لَهُ، وَأَظُنّ ذَلِكَ مِنْ سُفْيَان، فَإِنَّ الْإِسْمَاعِيلِيّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيق عَبْد الْجَبَّار بْن الْعَلَاء عَنْ سُفْيَان كَذَلِكَ عَلَى الْإِبْهَام, كُنْت أَظُنّ أَوَّلًا أَنَّ الَّذِي أَبْهَمَهُ الْبُخَارِيّ، لِأَنَّنِي رَأَيْت التَّصْرِيح بِهِ فِي رِوَايَة أَحْمَد عَنْ سُفْيَان، وَلَفْظه: قُلْت لِأَبِي إِنَّ أَخَاك يَحُكّهَا مِنْ الْمُصْحَف ـ وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْحُمَيْدِيّ عَنْ سُفْيَان، وَمِنْ طَرِيقه أَبُو نُعَيْم فِي الْمُسْتَخْرَج، وَكَأَنَّ سُفْيَان كَانَ تَارَة يُصَرِّح بِذَلِكَ وَتَارَة يُبْهِمهُ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَد أَيْضًا وَابْن حِبَّان مِنْ رِوَايَة حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ عَاصِم بِلَفْظِ: إِنَّ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود كَانَ لَا يَكْتُب الْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي مُصْحَفه ـ وَأَخْرَجَ أَحْمَد عَنْ أَبِي بَكْر بْن عَيَّاش عَنْ عَاصِم بِلَفْظِ: إِنَّ عَبْد اللَّه يَقُول فِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ ـ وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ إِبْهَام... إلخ كلامه رحمه الله.
وراجع بشأن ما فعله ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ فتوانا رقم: 169443، وما أحيل عليه فيها.
وأما قول عائشة في الحديث الآخر: أبو فلان ـ فقال ابن الجوزي: أبو فلان تريد به أبا هريرة.
فالظاهر أن الرواة الذين صرحوا بذكر كنيته قد رووا كلامها بالمعنى، وهذا لا حرج فيه، فإن جمهور السلف والخلف على جواز رواية الحديث بالمعنى إذا كان الراوي عارفاً بدقائق الألفاظ بصيراً بمقدار التفاوت بينها خبيراً بما يحيل معانيها وانظر الفتوى رقم: 124077، وما أحيل عليه فيها.
والله أعلم.