الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالحديث المذكور خاص بمن أحدث في المدينة، ومن السلف من عممه، قال رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ عَيْرٍ إِلَى كَذَا، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلاَ عَدْلًا. رواه البخاري وغيره.
قال القسطلاني في شرح البخاري: فمن أحدث فيها حدثًا ـ من ابتدع بدعة، أو ظلمًا: فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ـ والمراد باللعنة هنا البعد عن الجنة أوّل الأمر: لا يقبل الله منه صرفًا: فرضًا, ولا عدلاً: نافلة، أو بالعكس، أو التوبة والفدية، أو غير ذلك.
فالحديث كما هو ظاهر خاص بالمدينة، وإن عمم بعض السلف ذلك في كل مبتدع، قال الشاطبي في الاعتصام: فَأَمَّا أَنَّ الْبِدْعَةَ لَا يُقْبَلُ مَعَهَا عَمَلٌ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ ذِي بِدْعَةٍ صَلَاةً, وَلَا صِيَامًا, وَلَا صَدَقَةً, وَلَا جِهَادًا, وَلَا حَجًّا, وَلَا عُمْرَةً, وَلَا صَرْفًا, وَلَا عَدْلًا, وَوَقَعَتِ اللَّعْنَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، وَلَا فَرِيضَةً وَلَا تَطَوُّعًا، وَكُلَّمَا ازْدَادُوا اجْتِهَادًا صَوْمًا وَصَلَاةً ازْدَادُوا مِنَ اللَّهِ بُعْدًا، فَارْفُضْ مُجَالَسَتَهُمْ، وَأَذِلَّهُمْ، وَأَبْعِدْهُمْ، كَمَا أَبْعَدَهُمْ وَأَذَلَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَئِمَّةُ الْهُدَى بَعْدَهُ، وَكَانَ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ يَقُولُ: مَا ازْدَادَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ اجْتِهَادًا إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا ـ وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ صَاحِبِ بِدْعَةٍ صَلَاةً وَلَا صِيَامًا وَلَا زَكَاةً وَلَا حَجًّا وَلَا جِهَادًا وَلَا عُمْرَةً وَلَا صَدَقَةً وَلَا عِتْقًا وَلَا صَرْفًا وَلَا عَدْلًا.
فإن صح هذا ـ أي العموم في كل مبتدع ـ فهل ينطبق عليهم الحديث؟ قد يدخلون فيه، ولكن لا يلزم دخول كل شخص معين في الوعيد المعين، وقد أسهب في هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية في رفع الملام عن الأئمة الأعلام، فليُراجع، فلا بد قبل الحكم بابتداع شخص من استيفاء الشروط، وانتفاء الموانع، قال ابن تيمية - رحمه الله -: هَذَا مَعَ أَنِّي دَائِمًا وَمَنْ جَالَسَنِي يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنِّي: أَنِّي مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ نَهْيًا عَنْ أَنْ يُنْسَبَ مُعَيَّنٌ إلَى تَكْفِيرٍ وَتَفْسِيقٍ وَمَعْصِيَةٍ، إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الرسالية الَّتِي مَنْ خَالَفَهَا كَانَ كَافِرًا تَارَةً، وَفَاسِقًا أُخْرَى، وَعَاصِيًا أُخْرَى، وَإِنِّي أُقَرِّرُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ خَطَأَهَا، وَذَلِكَ يَعُمُّ الْخَطَأَ فِي الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ، وَمَا زَالَ السَّلَفُ يَتَنَازَعُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَمْ يَشْهَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ لَا بِكُفْرِ وَلَا بِفِسْقِ وَلَا مَعْصِيَةٍ، كَمَا أَنْكَرَ شريح قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ: بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ـ وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يَعْجَبُ, فَبَلَغَ ذَلِكَ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِي فَقَالَ: إنَّمَا شريح شَاعِرٌ يُعْجِبُهُ عِلْمُهُ، كَانَ عَبْدُ اللَّهِ أَعْلَمَ مِنْهُ وَكَانَ يَقْرَأُ: بَلْ عَجِبْتَ...... وَالتَّأْوِيلُ يَمْنَعُ الْفُسُوقَ، وَكُنْت أُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّمَا نُقِلَ لَهُمْ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِتَكْفِيرِ مَنْ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ أَيْضًا حَقٌّ، لَكِنْ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّعْيِينِ، وَهَذِهِ أَوَّلُ مَسْأَلَةٍ تَنَازَعَتْ فِيهَا الْأُمَّةُ مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ الْكِبَارِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْوَعِيدِ، فَإِنَّ نُصُوصَ الْقُرْآنِ فِي الْوَعِيدِ مُطْلَقَةٌ, كَقَوْلِهِ: إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا ـ الْآيَةَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا وَرَدَ: مَنْ فَعَلَ كَذَا فَلَهُ كَذَا، فَإِنَّ هَذِهِ مُطْلَقَةٌ عَامَّةٌ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: مَنْ قَالَ كَذَا، فَهُوَ كَذَا، ثُمَّ الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ يلتغي حُكْمُ الْوَعِيدِ فِيهِ: بِتَوْبَةِ، أَوْ حَسَنَاتٍ مَاحِيَةٍ، أَوْ مَصَائِبَ مُكَفِّرَةٍ، أَوْ شَفَاعَةٍ مَقْبُولَةٍ، وَالتَّكْفِيرُ هُوَ مِنْ الْوَعِيدِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ تَكْذِيبًا لِمَا قَالَهُ الرَّسُولُ، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِإِسْلَامِ، أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةِ بَعِيدَةٍ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكْفُرُ بِجَحْدِ مَا يَجْحَدُهُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ لَا يَسْمَعُ تِلْكَ النُّصُوصَ، أَوْ سَمِعَهَا وَلَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ، أَوْ عَارَضَهَا عِنْدَهُ مُعَارِضٌ آخَرُ أَوْجَبَ تَأْوِيلَهَا وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا...
وعليه، فعليك بيان الحكم، دون الحكم على أعيانهم، فقد لا يقتنعون بقولك، أو يعملون بفتوى بعض من أحل ذلك، فيكفي إطلاق الحكم دون تنزيل ذلك عليهم.
وأما بخصوص مشاركتك بالتهنئة: فلا ينبغي، وراجعي الفتوى رقم: 95903.
والله أعلم.