الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الله سبحانه قادر على أن يرزق عباده كيف شاء ومتى شاء، بسبب وبلا سبب؛ ولكنه من حكمته سبحانه ربط الأسباب بالمسببات، وقد بين سبحانه وتعالى ذلك في موقفين حصلا لمريم عليها السلام: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وهذا بسبب تفرغها لعبادة ربها. وجاء عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: قال جل وعز: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين. رواه ابن أبي شيبة، والطبراني وغيرهما.
قال الحافظ في فتح الباري: إن الذاكر يحصل له ما يحصل للداعي إذا شغله الذكر عن الطلب، كما في حديث ابن عمر، رفعه، يقول الله تعالى: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين. أخرجه الطبراني بسند لين، وحديث أبي سعيد بلفظ: من شغله القرآن وذكري عن مسألتي الحديث. أخرجه الترمذي وحسنه. اهـ.
وقوله تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا {مريم:25}فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا {مريم:26}.
قال في التسهيل لعلوم التنزيل: وقد استدل بعض الناس بهذه الآية على أن الإنسان ينبغي له أن يتسبب في طلب الرزق؛ لأن الله أمر مريم بهز النخلة.
واعلمي أن الرزق بيد الله وحده، وأن الإنسان مهما سعى في طلب الرزق فلن يأتيه إلا ما كتبه الله له، ومهما حيل بينه وبين رزقه فإن رزقه آتيه كما يأتيه أجله؛ فقد روى الطبراني في الكبير عن أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الرزق ليطلب العبد أكثر مما يطلبه أجله. الحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع. وانظري فتوانا رقم: 6121.
ومن الأسباب التي تفتح باب الرزق الدعاء والاستغفار والطاعة. فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا {نوح:10}، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا {نوح:11} وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا {نوح:12}. وأنت قد بذلت هذه الأسباب وإن الله رازقك، لكن متى شاء سبحانه وكيف شاء، والله تعالى يبتلي عبده المؤمن ليكفر عنه ذنبه، ويرفع درجته، ويستخرج منه ألوانا من مقامات العبودية، من الصبر، والدعاء، والتضرع، والشكر والحمد والتوكل والرجاء وغير ذلك.
فعليك أن تصبري وتحتسبي، وأن تعلمي أن الله مع الصابرين، وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وأن مع العسر يسرا، وأن من اتقى الله تعالى فتح له أبواب الرزق، فخزائنه سبحانه ملأى، وما عليه إلا أن يفزع إلى الله فزع المضطر الموقن بإجابة بالدعاء. أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ {النمل:62}.
واحذري من وسوسة الشيطان, ويمكن أن تكون وظيفة والدك بابا لرزقك، وسببا في وصول رزقك المقسوم لك عن طريقه، ويمكن أن يكون باب رزقك من جهة أخرى, لأن الله قد تكفل برزق كل مخلوق ويوصله له بأي طريق. وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا {هود:6}، وليس من شرط الغنى التجارة والتعب وإنما بذل السبب والسعي. فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ {الملك:15}. وقال: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {آل عمران:26}.
ونسأل الله تعالى أن يفرج همك وغمك، وأن يعجل بفرجك ورزقك الحلال الطيب المبارك وإيانا. وللفائدة تراجع الفتوى رقم: 129079
والله أعلم.