الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالأخذ بالأسهل من أقوال أهل العلم عن تتبع وقصد للأخف منعه كثير من أهل العلم.
جاء في فتح العلي المالك لمحمد عليش المالكي : والأصح أنه يمتنع تتبع الرخص في المذاهب بأن يأخذ منها ما هو الأهون فيما يقع من المسائل، وقيل: لا يمتنع، وصرح بعضهم بتفسيق متتبع الرخص. انتهى.
وفي فتاوى اللجنة الدائمة في الإفتاء: أما إن كان المراد بالأخذ بالرخص في الدين هو الأخذ بالأسهل وما يوافق هوى الإنسان من فتاوى وأقوال العلماء - فإن ذلك غير جائز، والواجب على الإنسان أن يحتاط لدينه، وأن يحرص على إبراء ذمته، فلا يتبع إلا ما صح به الدليل من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإن كان جاهلا بالحكم فإنه يسأل أهل الذكر ممن يوثق بعلمه وفتواه، ولا يكثر من سؤال العلماء في المسألة الواحدة فيتبع الأسهل له وما يوافق هواه، فإن ذلك دليل على تفريطه وإهماله لأمور دينه، وقد أثر عن بعض السلف قوله: (من تتبع رخص العلماء فقد تزندق). انتهى.
وفي الموسوعة الفقهبة : وفي تتبع الرخص، وفي متتبعها في المذاهب خلاف بين الأصوليين والفقهاء، والأصح كما في جمع الجوامع امتناع تتبعها لأن التتبع يحل رباط التكليف، لأنه إنما تبع حينئذ ما تشتهيه نفسه . بل ذهب بعضهم إلى أنه فسق، والأوجه كما في نهاية المحتاج خلافه. انتهى.
وفي فتاوى الرملي الشافعي: (سُئِلَ) عَنْ تَتَبُّعِ الرُّخَصِ هَلْ يَجُوزُ أَوْ لَا؟ (فَأَجَابَ) بِأَنَّ الْمَذْهَبَ مَنْعُ تَتَبُّعِ الرُّخَصِ بِأَنْ يَخْتَارَ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ مَا هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ. انتهى
ورجح بعض أهل العلم جواز الأخذ بالأسهل من أقوال أهل العلم إذا وقع ذلك اتفاقا من غير قصد، وعلى هذا القول فلو حصل تلفيق بين عدة مذاهب في وضوء بحيث توضأ شخص ومسح جزءا من رأسه وترك التسمية في أوله والدلك فوضوؤه صحيح.
جاء في مطالب أولى النهي شرح غاية المنتهى على الفقه الحنبلي : اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى مَنْعِ جَوَازِ التَّقْلِيدِ، حَيْثُ أَدَّى إلَى التَّلْفِيقِ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ،؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كُلٌّ مِنْ الْمَذْهَبَيْنِ أَوْ الْمَذَاهِبِ يَرَى الْبُطْلَانَ، كَمَنْ تَوَضَّأَ مَثَلًا وَمَسَحَ شَعْرَةً مِنْ رَأْسِهِ مُقَلِّدًا لِلشَّافِعِيِّ، ثُمَّ لَمَسَ ذَكَرَهُ بِيَدِهِ مُقَلِّدًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، فَلَا يَصِحُّ التَّقْلِيدُ حِينَئِذٍ. وَكَذَا لَوْ مَسَحَ شَعْرَةً، وَتَرَكَ الْقِرَاءَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ مُقَلِّدًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، أَوْ افْتَصَدَ مُخَالِفًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَلَمْ يَقْرَأْ مُقَلِّدًا لَهُمْ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا مِنْ حَيْثُ الْعَقْلِ، وَالتَّعْلِيلُ فِيهِ وَاضِحٌ، لَكِنَّهُ فِيهِ حَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ خُصُوصًا عَلَى الْعَوَامّ، الَّذِي نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مَذْهَبٌ مُعَيَّنٌ. وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: لَا يَلْزَمُ الْعَامِّيَّ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ، كَمَا لَمْ يَلْزَمْ فِي عَصْرِ أَوَائِلِ الْأُمَّةِ. وَاَلَّذِي أَذْهَبُ إلَيْهِ وَأَخْتَارُهُ: الْقَوْلُ بِجَوَازِ التَّقْلِيدِ فِي التَّلْفِيقِ، لَا بِقَصْدِ تَتَبُّعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ تَتَبَّعَ الرُّخَصَ فَسَقَ، بَلْ حَيْثُ وَقَعَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا، خُصُوصًا مِنْ الْعَوَامّ الَّذِينَ لَا يَسْعُهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ. فَلَوْ تَوَضَّأَ شَخْصٌ، وَمَسَحَ جُزْءًا مِنْ رَأْسِهِ مُقَلِّدًا لِلشَّافِعِيِّ، فَوُضُوءُهُ صَحِيحٌ بِلَا رَيْبٍ. فَلَوْ لَمَسَ ذَكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُقَلِّدًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ وُضُوءَ هَذَا الْمُقَلِّدِ صَحِيحٌ، وَلَمْسَ الْفَرْجِ غَيْرُ نَاقِضٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِذَا قَلَّدَهُ فِي عَدَمِ نَقْضِ مَا هُوَ صَحِيحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، اسْتَمَرَّ الْوُضُوءُ عَلَى حَالِهِ بِتَقْلِيدِهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَهَذَا هُوَ فَائِدَةُ التَّقْلِيدِ. وَحِينَئِذٍ فَلَا يُقَالُ: الشَّافِعِيُّ يَرَى بُطْلَانَ هَذَا الْوُضُوءِ بِسَبَبِ مَسِّ الْفَرْجِ، وَالْحَنَفِيُّ يَرَى الْبُطْلَانَ لِعَدَمِ مَسْحِ رُبْعِ الرَّأْسِ فَأَكْثَرَ،؛ لِأَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ مُنْفَصِلَتَانِ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ قَدْ تَمَّ صَحِيحًا بِتَقْلِيدِ الشَّافِعِيِّ، وَيَسْتَمِرُّ صَحِيحًا بَعْدَ اللَّمْسِ بِتَقْلِيدِ الْحَنَفِيِّ، فَالتَّقْلِيدُ لِأَبِي حَنِيفَةَ إنَّمَا هُوَ فِي اسْتِمْرَارِ الصِّحَّةِ لَا فِي ابْتِدَائِهَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ مِمَّنْ يَقُولُ بِصِحَّةِ وُضُوءِ هَذَا الْمُقَلِّدِ قَطْعًا، فَقَدْ قَلَّدَ أَبَا حَنِيفَةَ فِيمَا هُوَ حَاكِمٌ بِصِحَّتِهِ. وَكَذَا لَوْ قَلَّدَ الْعَامِّيُّ مَالِكًا وَأَحْمَدَ فِي طَهَارَةِ بَوْلِ وَرَوْثِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَكَانَ قَدْ تَرَكَ التَّدْلِيكَ فِي وُضُوئِهِ الْوَاجِبَ عِنْدَ مَالِكٍ أَوْ مَسَحَ جَمِيعَ الرَّأْسِ مَعَ الْأُذُنَيْنِ الْوَاجِبَ عِنْدَ أَحْمَدَ،؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ صَحِيحٌ عِنْدَأ بِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالتَّقْلِيدُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ، وَالرَّوْثُ الْمَذْكُورُ طَاهِرٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ. وَذَلِكَ فِي الْجَوَازِ نَظِيرُ مَا لَوْ حَكَمَ الْحَاكِمُ فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ، غَايَةَ مَا هُنَاكَ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يَرْفَعُ الْخِلَافَ مِنْ حَيْثُ لَا يَسُوغُ لِلْمُخَالِفِ نَقْضُهُ سَدًّا لِلنِّزَاعِ، وَقَطْعًا لِلْخُصُومَاتِ. وَهُنَا التَّقْلِيدُ نَافِعٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، مُنَجٍّ لِصَاحِبِهِ، وَلَا يَسَعُ النَّاسَ غَيْرُ هَذَا. انتهى.
والحديث المشتمل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يختار الأيسر من الأمرين مقيد بألا يكون في الأيسر منهما إثم، وقد ذكرنا ما ذهب إليه كثير من أهل العلم أن تتبع الرخص فيه معصية وإثم.
جاء في فتح الباري لابن حجر : وقوله: إلا أخذ أيسرهما أي أسهلهما. وقوله: ما لم يكن إثما أي ما لم يكن الأسهل مقتضيا للإثم فإنه حينئذ يختار الأشد، وفي حديث أنس عند الطبراني في الأوسط: إلا اختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط. انتهى.
والله أعلم.