الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالذي يريحك من هذا العناء ويدفع عنك تلك الحيرة هو أن تعلمي أن الله تعالى حكيم، فهو سبحانه يضع الأشياء في مواضعها ويوقعها في مواقعها، ولا يقضي قضاء إلا لحكمة بالغة ومصلحة عظيمة، وقد تخفى هذه المصلحة على العبد فيبادر بالتسخط والاعتراض، والأولى له أن يرضى بحكم الله ويستسلم لقضائه وقدره، قال تعالى: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون{ البقرة:216}.
والله تعالى لا يقضي قضاء للمؤمن إلا كان خيرا له، فارضي بما يقدره الله ويقضيه واستسلمي لحكم الله فيك واعلمي أنه الخير لك والمصلحة، ولا تظني بالله ظن السوء، يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله: فأكثر الخلق بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الْحَقِّ ظَنَّ السَّوْءِ، فَإِنَّ غَالِبَ بَنِي آدَمَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَبْخُوسُ الْحَقِّ نَاقِصُ الْحَظِّ، وَأَنّهُ يَسْتَحِقُّ فَوْقَ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ وَلِسَانُ حَالِهِ يَقُولُ: ظَلَمَنِي رَبِّي وَمَنَعَنِي مَا أَسْتَحِقُّهُ، وَنَفْسُهُ تَشْهَدُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَهُوَ بِلِسَانِهِ يُنْكِرُهُ، وَلَا يَتَجَاسَرُ عَلَى التَّصْرِيحِ بِهِ، وَمَنْ فَتَّشَ نَفْسَهُ وَتَغَلْغَلَ فِي مَعْرِفَةِ دَفَائِنِهَا وَطَوَايَاهَا رَأَى ذَلِكَ فِيهَا كَامِنًا كُمُونَ النَّارِ فِي الزِّنَادِ، فَاقْدَحْ زِنَادَ مَنْ شِئْتَ يُنْبِئْكَ شَرَارُهُ عَمَّا فِي زِنَادِهِ، وَلَوْ فَتَّشْتَ مَنْ فَتَّشْتَهُ لَرَأَيْتَ عِنْدَهُ تَعَتُّبًا عَلَى الْقَدَرِ وَمَلَامَةً لَهُ وَاقْتِرَاحًا عَلَيْهِ خِلَافَ مَا جَرَى بِهِ، وَأَنّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَا وَكَذَا، فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ، وَفَتِّشْ نَفْسَكَ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِنْ ذِي عظيمَةٍ، وَإِلَّا فَإِنِّي لَا إِخَالُكُ نَاجِيًا فَلْيَعْتَنِ اللَّبِيبُ النَّاصِحُ لِنَفْسِهِ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، وَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلِيَسْتَغْفِرْهُ كُلَّ وَقْتٍ مِنْ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَلْيَظُنَّ السَّوءَ بِنَفْسِهِ الَّتِي هِي مَأْوَى كُلَّ سُوءٍ، وَمَنْبَعُ كُلَّ شَرٍّ الْمُرَكَّبَةِ عَلَى الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ، فَهِيَ أَوْلَى بِظَنِّ السَّوءِ مِنْ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَأَعْدَلِ الْعَادِلِينَ وَأَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ، الْغَنِيِّ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ الْغِنَى التَّامُّ وَالْحَمْدُ التَّامُّ وَالْحِكْمَةُ التَّامُّةُ، الْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ سَوْءٍ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَسْمَائِهِ، فَذَاتُهُ لَهَا الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَصِفَاتُهُ كَذَلِكَ، وَأَفْعَالُهُ كَذَلِكَ، كُلُّهَا حِكْمَةٌ وَمَصْلَحَةٌ وَرَحْمَةٌ وَعَدْلٌ، وَأَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا حُسْنَى. انتهى.
وليس الإعطاء من عرض الدنيا الفاني هو علامة الاصطفاء والرضا عن العبد ولا المنع منها هو علامة السخط عليه فقد يمنع الله عبده شيئا من الدنيا وهو يحبه لعلمه أنه لو أعطاه ذلك لكان خلاف مصلحته، والعكس بالعكس، كما قال تعالى: فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن. وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن{ الفجر:15ـ16}.
كلا، يقول ابن القيم: أي ليس كل من وسعت عَلَيْهِ وأكرمته وَنعمته يكون ذَلِك إِكْرَاما مني لَهُ وَلَا كل من ضيّقت عَلَيْهِ رزقه وابتليته يكون ذَلِك إهانة مني لَهُ. انتهى.
وبه يتبين لك بيانا واضحا أن العطاء والمنع في الدنيا ليس هو أمارة رضا الله عن العبد أو محبته له، وأن الواجب على العبد أن يصبر لحكم الله وألا يتسخط شيئا من أقضيته عالما أن فيها المصلحة والرحمة والحكمة، وليجتهد في دعاء الرب تعالى أن ييسر له الخير حيث كان، وما تجدينه من الشعور بأنك لست على صواب، وما يدور في خلدك من التساؤلات المحيرة والمؤرقة إنما هو من الشيطان وكيده، يريد بذلك أن يصدك عن الصراط المستقيم، وأن يكدر عليك عيشك، فلا تصغي له ولا تلتفتي إلى وسوسته.
والله أعلم.