الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمقصود بالقسم الكاذب صيغة اليمين التي توجد في وثيقة الإذن في بعض البرامج، فيشترط أصحابها للإذن فيها أداء قسم، وقد لايوجد ذلك في بعض البرامج، والقسم يكون بالله أو بصفة من صفاته، وما ذكرته ليست فيه صيغة قسم، لكن عدم وجودها في بعض البرامج لا يبيح الاعتداء على حق أصحابها ما لم يأذنوا في ذلك، وهذا هو مقتضى العدل والتسامح. لأن هذه حقوق مملوكة وبذل أصحابها أموالاً وجهوداً لإنتاجها وإخراجها، فنسخها إبطال لهذه الحقوق، وإهدار لهذه الأموال والجهود، فلو أبيح الاعتداء على حق الغير مطلقا فيكف سيكون الحال.
وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي: الاسم التجاري، والعنوان التجاري، والعلامة التجارية، والتأليف والاختراع، أو الابتكار هي حقوق خاصة، لأصحابها، أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتمول الناس لها، وهذه الحقوق يعتد بها شرعاً، فلا يجوز الاعتداء عليها.
وقد جاءت النصوص الشرعية ناطقة بذلك؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: المسلمون على شروطهم. رواه أبو داود وصححه السيوطي. وقوله صلى الله عليه وسلم: لايحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه. أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح. وقوله صلى الله عليه وسلم: من سبق إلى مباح فهو أحق به. رواه أبو داود وصححه الضياء المقدسي.
وأما مسألة الحاجة أو الضرورة فلها استثناءات لكن لا يمكن جعلها قاعدة عامة وهي تقدر بقدرها شرعا، ومن هنا فقد أفتى بعض العلماء بجواز النسخ للنفع الشخصي كالتعلم دون التكسب والمتاجرة . ولا يمكن الحكم على الأمور والنظر إليها من زاوية مصالحنا الخاصة؛ بل للشارع مقاصد قد ندركها وقد لا ندركها لقصور عقولنا وإدراكنا، وقد قالت قريش لما جاء محمد صلى الله عليه وسلم بتحريم ما كان مألوفا لديهم من المنكرات إنه يضيق على الناس بتحريم الخمر والزنا وعبادة إله واحد. فهل كان ذلك تضييقا حقا أم توسعة ورشدا؟ وقد عنيت الشريعة الإسلامية بالعدل، وإعطاء كل ذي حق حقه. ثم إنه قد صدرت عنا فتاوى تراعي الحالات الخاصة وتجيز النسخ في بعض الصور بضوابط معينة كالفتويين: 6421/ 157787
وكثرة المنكرات وفشوها في المجتمع لايغير من حقيقتها شيئا، وعلى المصلحين إنكار ما قدروا على إنكاره وما عجزوا عنه أنكروه بقلوبهم ولم يرضوه؛ للحديث: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. كما رواه مسلم وغيره. ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها . ومراعاة رضا الخالق ولو بما يسخط المخلوقين أولى. من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى الناس عنه، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس. رواه ابن حبان في صحيحه. وقد ذم الله في محكم كتابه الذين يهابون الناس ويخافون الخلق ولا يخافون من الخالق ولا يستحيون منه. قال سبحانه: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (النساء: 108).
وأما قولك إنك لاتبالي سواء أكان نسخها محرما أو مباحا فستقدم عليها. فما كان لك أن تقول ذلك، فشتان بين من يقدم على المعصية وهو كاره لها لكن غلبته نفسه الأمارة بالسوء واستهواه الشيطان إليها أو يفعل الأمر متأولا للخلاف فيه ونحوه، وبين من يقدم على المعصية مجاهرا بها متبجحا بعملها. ولذا ورد في الحديث: كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ. متفق عليه من حديث أبي هريرة. فاستغفر الله من ذلك القول ولو عصيت ربك وخالفت الأوامر وأقدمت على المحرمات فلا تقدم عليها وأنت متبجح بها لعل الله يغفر لك ذنبك ويستره عليك، ففرق بين من يقول سمعنا وعصينا والذي يقول سمعنا وأطعنا. قال سبحانه: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ. (الأحزاب:36). والواجب على المسلم إذا سمع أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، أن يظهر السمع والطاعة، قال الله تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. [النور:51].
وقد بين الله جل وعلا أن من صفات اليهود الذميمة قولهم: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [النساء:46].
نسأل الله سبحانه أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، وأن لايزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا للإيمان إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله تعالى أعلم