الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلا شك أن تقليل المفاسد مقصد من مقاصد الشريعة الغراء، فمتى أمكن تقليل المفسدة فهذا خير، وإن لم يحصل زوالها بالكلية. يقول ابن تيمية رحمه الله: فإن الله أمر بالصلاح ونهى عن الفساد وبعث رسله بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها. انتهى .
هذا هو الأصل العام، لكن في مثل حالتك هذه لا يشرع لك البقاء معهم حتى وإن كان بقاؤك سيقلل معاصيهم؛ لأن تقليل المعصية وإن كان مصلحة إلا أنه مقابل هنا بمفسدة أخرى وهي مشاهدتك للمنكر ومجالسة أصحابه وما قد يترتب على ذلك من فتنتك أنت وزوال هيبة المعصية من قلبك، وحصول إلفها، وهذه كلها مفاسد عظيمة، والإنسان مطالب في المقام الأول أن يحفظ دين نفسه ولا يطالب بأن يصلح الناس ويفسد نفسه.
والذي ننصحك به في المقام أن تجالسهم وأن تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر بقدر الوسع والطاقة، فإن أصروا على فعل منكر ما ولم يستجيبوا لك فعليك حينئذ مفارقتهم قال سبحانه : وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) {النساء}.
قال القرطبي رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية : إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ. فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر ؛ لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر ؛ قال الله عز وجل : إنكم إذا مثلهم . فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها ؛ فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية . وقد روي عن عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه أنه أخذ قوما يشربون الخمر، فقيل له عن أحد الحاضرين : إنه صائم. فحمل عليه الأدب، وقرأ هذه الآية: إنكم إذا مثلهم. أي إن الرضا بالمعصية معصية ؛ ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضي بعقوبة المعاصي حتى يهلكوا بأجمعهم . وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة. انتهى.
والله أعلم.