الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن (لو) تأتي لعدة معان ولا يمنع قولها دائما، فقد بوب البخاري على جوازها في بعض المواضع وذكر عدة أحاديث في ذلك، وأما النهي الثابت في حديث مسلم فمحمول على استعمالها في التلهف على أمور الدنيا أو الاعتراض على القدر كما قال القاضي عياض في مشارق الأنوار على صحاح الآثار: اعلم أن لو تأتي غالبا في كلام العرب لامتناع الشيء لامتناع غيره كقوله: لو كنت راجما بغير بينة رجمتها. ولو تأخر لزدتكم. ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولحللت. وقد تأتي بمعنى إن كقوله تعالى: ولو أعجبتكم. وعليه يتأول الحديث: لو كنت تريد أن تصيب السنة فأقصر الخطبة. وتأتي للتقليل كقوله: ولو بشق تمرة، والتمس ولو خاتما من حديد. وتأتي لو بمعنى هلا كقوله: لو شئت لاتخذت عليه أجرا. قال الداودي: معناه هلا اتخذت وهذا التفات إلى المعنى لا إلى اللفظ. ولو ليست بمعنى هلا وإنما تلك لولا، وقوله أن لو تفتح عمل الشيطان أي أن قولها واعتياد معناها يظهر الطعن على القدر ويفضي بالعبد إلى ترك الرضى بما أراده الله، لأن القدر إذا ظهر بما يكره العبد قال لو فعلت كذا لم يكن كذا وقد مر في علم الله أنه لا يفعل إلا ما فعل ولا يكون إلا الذي كان. اهـ
وقال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام: وقوله صلى الله عليه وسلم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت" فيه أمران:
أحدهما: جواز استعمال لفظة لو في بعض المواضع وإن كان قد ورد فيها ما يقتضي خلاف ذلك وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن لو تفتح عمل الشيطان" وقد قيل في الجمع بينهما إن كراهتها في استعمالها في التلهف على أمور الدنيا إما طلبا كما يقال: لو فعلت كذا حصل لي كذا، وإما هربا كقوله: لو كان كذا لما وقع لي كذا وكذا لما في ذلك من صورة عدم التوكل في نسبة الأفعال إلى القضاء والقدر، وأما إذا استعملت في تمني القربات كما جاء في هذا الحديث فلا كراهة هذا أو ما يقرب منه.اهـ
وفي فتح الباري لابن حجر: قال الطبري: طريق الجمع بين هذا النهي وبين ما ورد من الأحاديث الدالة على الجواز أن النهي مخصوص بالجزم بالفعل الذي لم يقع، فالمعنى لا تقل لشيء لم يقع لو أني فعلت كذا لوقع. قاضيا بتحتم ذلك غير مضمر في نفسك شرط مشيئة الله تعالى. وما ورد من قول لو محمول على ما إذا كان قائله موقنا بالشرط المذكور وهو أنه لا يقع شيء إلا بمشيئة الله وإرادته, وهو كقول أبي بكر في الغار: لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا. فجزم بذلك مع تيقنه أن الله قادر على أن يصرف أبصارهم عنهما بعمى أو غيره لكن جرى على حكم العادة الظاهرة وهو موقن بأنهم لو رفعوا أقدامهم لم يبصروهما إلا بمشيئة الله تعالى. انتهى ملخصا.
وقال عياض: الذي يفهم من ترجمة البخاري ومما ذكره في الباب من الأحاديث أنه يجوز استعمال لو ولولا في ما يكون للاستقبال مما فعله لوجود غيره وهو من باب لو لكونه لم يدخل في الباب إلا ما هو للاستقبال وما هو حق صحيح متيقن بخلاف الماضي والمنقضي، أو ما فيه اعتراض على الغيب والقدر السابق. قال: والنهي إنما هو حيث قاله معتقدا ذلك حتما وأنه لو فعل ذلك لم يصبه ما أصابه قطعا، فأما من رد ذلك إلى مشيئة الله تعالى وأنه لولا أن الله أراد ذلك ما وقع فليس من هذا. قال: والذي عندي في معنى الحديث أن النهي على ظاهره وعمومه لكنه نهي تنزيه ويدل عليه قوله فإن لو تفتح عمل الشيطان أي يلقي في القلب معارضة القدر فيوسوس به الشيطان.
وتعقبه النووي بأنه جاء من استعمال لو في الماضي مثل قوله: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، فالظاهر أن النهي عن إطلاق ذلك فيما لا فائدة فيه وأما من قاله تأسفا على ما فات من طاعة الله أو ما هو متعذر عليه منه ونحو هذا فلا بأس به. وعليه يحمل أكثر الاستعمال الموجود في الأحاديث.
وقال القرطبي في المفهم: المراد من الحديث الذي أخرجه مسلم أن الذي يتعين بعد وقوع المقدور التسليم لأمر الله والرضى بما قدر والإعراض عن الالتفات لما فات، فإنه إذا فكر في ما فاته من ذلك فقال لو أني فعلت كذا لكان كذا جاءته وساوس الشيطان فلا تزال به حتى يفضي إلى الخسران، فيعارض بتوهم التدبير سابق المقادير وهذا هو عمل الشيطان المنهي عن تعاطي أسبابه بقوله: فلا تقل لو فإن لو تفتح عمل الشيطان وليس المراد ترك النطق بلو مطلقا؛ إذ قد نطق النبي صلى الله عليه وسلم بها في عدة أحاديث. ولكن محل النهي عن إطلاقها إنما هو في ما إذا أطلقت معارضة للقدر مع اعتقاد أن ذلك المانع لو ارتفع لوقع خلاف المقدور لا ما إذا أخبر بالمانع على جهة أن يتعلق به فائدة في المستقبل، فإن مثل هذا لا يختلف في جواز إطلاقه وليس فيه فتح لعمل الشيطان ولا ما يفضي إلى تحريم. انتهى.
والله أعلم.