الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد بينت الآيات أمر اللعان، فذكرت أن الذين يرمون زوجاتهم بالزنى، ولم يكن لهم شهداء على اتهامهم لهن إلا أنفسهم، فعلى الواحد منهم أن يشهد أربع مرات بقوله: أشهد بالله أني صادق فيما رميتها به من الزنى، ويزيد في الشهادة الخامسة الدعوة على نفسه باستحقاقه لعنة الله إن كان كاذباً في قوله.
وذكر أهل العلم أنه بشهادته تستوجب الزوجة عقوبة الزنى، وهي الرجم حتى الموت، ولا يدفع عنها هذه العقوبة إلا أن تشهد في مقابل شهادته أربع شهادات بالله إنه لكاذب في اتهامه لها بالزنى، وتزيد في الشهادة الخامسة الدعوة على نفسها باستحقاقها غضب الله، إن كان زوجها صادقاً في اتهامه لها، وفي هذه الحال يفرق بينهما.
وفي التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي: والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم. هذه الآية في قذف الرجل لامرأته فيجب اللعان بذلك، وسببها (أن رجلاً قال: يا رسول الله الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيقلته فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فسكت عنه نبي الله صلى الله عليه وسلم ثم عاد فقال مثل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أنزل فيك وفي صاحبتك فأتني بها فأتى بها فتلاعنا وفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما.
وموجب اللعان عند مالك شيئان: أحدهما: أن يدعي الزوج أنه رأى امرأته تزني. والآخر أن ينفي حملها ويدعى الاستبراء قبله، فإذا تلاعن الزوج تعلقت به ثلاثة أحكام: نفي حد القذف عنه، وانتفاء سبب الولد منه، ووجوب حد الزنا عليها إن لم تلاعن، فإن تلاعنت سقط الحد عنها، ولفظ الآية عام في الزوجات الحرائر والمماليك، والمسلمات والكافرات والعدول وغيرهم، وبذلك أخذ مالك واشترط في الزوج الإسلام واشترط أبو حنيفة أن يكونا مسلمين حرين عدلين {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين} أي يقول الزوج أربع مرات: أشهد بالله لقد رأيت هذه المرأة تزني، أو أشهد بالله ما هذا الحمل مني، ولقد زنت وإني في ذلك لمن الصادقين، ثم يقول في الخامسة لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وزاد أشهب أن يقول: أشهد بالله الذي لا إله إلا هو وانتصب: أربع شهادات بالله. على المصدرية، والعامل فيه شهادة أحدهم وقرأ بالرفع وهو خبر شهادة أحدهم، وقوله (بالله إنه لمن الصادقين) من صلة أربع شهادات أو من صلة شهادة أحدهم (والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) بنصب الخامسة هنا. وفي الموضع الثاني وانتصب بفعل مضمر تقديره ويشهد الخامسة، أو بالعطف على أربع شهادات على قراءة النصب، وقرأ الباقون بالرفع على الابتداء أو عطف على أربع شهادات بقراءة الرفع، وقرئ أن لعنة، وأن غضب: بتشديد أن، ونصب اسمها وقرأ نافع بتخفيفها ورفع اللعنة والغضب على الابتداء (ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين) العذاب هنا حد الزنا، أي يدفعه التعان المرأة، وهي أن تقول أربع مرات: أشهد بالله ما زنيت، وإنه في ذلك لمن الكاذبين، ثم تقول في الخامس: غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ويتعلق بالتعانها ثلاثة أحكام: دفع الحد عنها، والتفريق بينها وبين زوجها، وتأبيد الحرمة. انتهى.
وقال ابن الجوزي في التفسير: إذا قذف الرجل زوجته بالزنا لزمه الحد، وله التخلص منه بإقامة البينة أو باللعان، فإن أقام البينة لزمها الحد، وإن لاعنها فقد حقق عليها الزنا، ولها التخلص منه باللعان، فإن نكل الزوج عن اللعان فعليه حد القذف، وإن نكلت الزوجة لم تحد وحبست حتى تلاعن أو تقر بالزنا في إحدى الروايتين، وفي الأخرى يخلى سبيلها، وقال أبو حنيفة: لا يحد واحد منهما ويحبس حتى يلاعن. وقال مالك والشافعي يجب الحد على الناكل منهما. ولا تصح الملاعنة إلا بحضرة الحاكم فإن كانت المرأة خفرة بعث الحاكم من يلاعن بينهما وصفة اللعان أن يبدأ الزوج فيقول أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا أربع مرات ثم يقول في الخامسة ولعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم تقول الزوجة أربع مرات أشهد بالله لقد كذب فيما رماني به من الزنا ثم تقول وغضب الله عليها إن كان من الصادقين، والسنة أن يتلاعنا قياماً ويقال للزوج إذا بلغ اللعنة اتق الله فإنها الموجبة وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وكذلك يقال للزوجة إذا بلغت إلى الغضب فإن كان بينهما ولد اقتصر نفيه عن الأب إلى ذكره في اللعان فيزيد في الشهادة وما هذا الولد ولدي وتزيد هي وإن هذا الولد ولده. انتهى. وراجع في ذلك الفتوى رقم: 65756 للاطلاع على المزيد في كيفية الشهادات.
والله أعلم.