الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد سبق أن نبهنا على أن الأصل في الفعل أن يؤاخذ به فاعله دون غيره ممن لم تكن له علاقة به، وأن إطلاق المؤاخذة بحيث تتناول من ليس له علاقة بالأمر لا يصح، فراجع الفتوى رقم: 71742.
كما سبق أن نبهنا على أن حكم هذه المقاطعة تابع لتقدير المصالح والمفاسد، لذلك قد يتغير الحكم من حال إلى حال، ومن زمان إلى زمان ومرد هذا التقدير إلى الراسخين في العلم من كل عصر، فراجع الفتوى رقم: 130172.
وأمر ثالث لابد من التنبيه عليه هنا، وهو أن الشريعة جاءت بالموازنة بين المصالح والمفاسد، فمبناها على جلب المصالح ودرء المفاسد، وعند تزاحم المصالح أو المفاسد يغتفر تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما، كما يغتفر ارتكاب أدنى المفسدتين لاجتناب أعلاهما، وبذلك يُعرف أن الشيء الذي يحكم بتحريمه قد تكون فيه مصلحة من بعض الوجوه ولكن لو غلبت مفاسده أهدرت هذه المصالح، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله: الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما هو المشروع. هـ.
وقال ـ أيضا: السيئة تحتمل في موضعين: دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها، وتحصيل ما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها، وذلك ثابت في العقل، كما يقال : ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين. هـ.
وإذا تقرر هذا انحل الإشكال الذي أورده السائل الكريم، لأننا قررنا ـ أولا ـ أن من يحكم في مثل هذه المسائل هم الراسخون في العلم دون غيرهم، وثانيا: أن حكمهم يكون باعتبار ميزان المصالح والمفاسد، في محاولة لتحصيل أكبر قدر من المصالح ودفع أكبر قدر من المفاسد، وما حصل في سبيل ذلك من إهدار مصلحة أقل أو تحمل مفسدة أقل، يكون من المغتفر. ومن ذلك تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وتقديم مصلحة الدين على مصلحة الدنيا.
إذن، فليس للمقاطعة حكم عام يجب الرجوع إليه في كل حال، ومن كل أحد، ومع كل شخص أو جهة.
والله أعلم.