الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فما ذكره السائل الكريم من فهمه لمسألة القضاء والقدر هو الصواب، فإن للإيمان بذلك أربع مراتب، وهي التي ذكرها السائل بقوله: (علم وكتابة ومشيئة وخلق) وقد سبق لنا تفصيل هذه المراتب في الفتويين: 20434 ، 60787.
وكذلك ما يتعلق بمشيئة الله واختيار العبد، فإن اختيار العبد للأشياء هو بمشيئة الله تعالى وعلمه وقدرته، فلا يخرج شيء من فعله واختياره عن قدرة الله ومشيئته؛ كما قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. {الإنسان: 30}
فمشيئة الله تعالى لا تنفي وجود مشيئة للعباد. وراجع في ذلك الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 67389، 110325، 129808. ولمزيد الفائدة عن مفهوم القضاء والقدر ومراتبه وثمراته، يمكن الاطلاع على الفتويين: 67357 ، 20434. كما يمكن الاطلاع على الفتوى رقم: 24402 . لبيان بعض الكتب والمراجع حول هذه القضية.
وأما مذهب الأشاعرة في القدر، فالفرق بينه وبين مذهب أهل السنة واضح، فهم ينفون قدرة للعبد ولا يجعلون لاختياره تأثيرا .. وهذا يتضح بالاطلاع على نظرية الكسب، التي أراد بها الأشاعرة الجمع بين الجبرية والقدرية، فأتوا بما لا يوافق النقل، ولا يقبل في العقل، ولم يخرج عن مذهب الجبر.
قال الدكتور سفر الحوالي في رسالته (منهج الأشاعرة في العقيدة): أراد الأشاعرة هنا أن يوفقوا بين الجبرية والقدرية فجاءوا بنظرية الكسب، وهي في مآلها جبرية خالصة؛ لأنها تنفي أي قدرة للعبد أو تأثير، أما حقيقتها النظرية الفلسفية فقد عجز الأشاعرة أنفسهم عن فهمها فضلاً عن إفهامها لغيرهم ولهذا قيل : مما يقال ولا حقيقة تحته معقولة تدنوا إلى الأفهام: الكسب عند الأشعري، والحال عند البهشمي، وطفرة النظام.
ولهذا قال الرازي الذي عجز هو الآخر عن فهمها: إن الإنسان مجبور في صورة مختار. أما البغدادي فأراد أن يوضحها فذكر مثالاً لأحد أصحابه في تفسيرها شبه فيه اقتران قدرة الله بقدرة العبد مع نسبة الكسب إلى العبد " بالحجر الكبير قد يعجز عن حمله رجل، ويقدر آخر على حمله منفرداً به، فإذا اجتمعا جميعاً على حمله كان حصول الحمل بأقواهما، ولا خرج أضعفهما بذلك عن كونه حاملاً". وعلى مثل هذا المثال الفاسد يعتمد الجبرية، وبه يتجرأ القدرية المنكرون، لأنه لو أن الأقوى من الرجلين عذب الضعيف وعاقبه على حمل الحجر فإنه يكون ظالماً باتفاق العقلاء، لأن الضعيف لا دور له في الحمل، وهذه المشاركة الصورية لا تجعله مسؤولاً عن حمل الحجر. والإرادة عند الأشاعرة معناها: المحبة والرضا، وأولوا قوله تعالى : ( ولا يرضى لعباده الكفر ) بأنه لا يرضاه لعباده المؤمنين ! فبقي السؤال وارداً عليهم : وهل رضيه للكفار أم فعلوه وهو لم يرده ؟ وفعلوا بسائر الآيات مثل ذلك. ومن هذا القبيل كلامهم في الاستطاعة، والحاصل أنهم في هذا الباب خرجوا عن المنقول والمعقول ولم يعربوا عن مذهبهم فضلاً عن البرهنة عليه. اهـ.
والله أعلم.