الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالقتل الخطأ عند الفقهاء هو ما وقع دون قصد الفعل والشخص، أو دون قصد أحدهما، كما في الموسوعة الفقهية، وخطأ الطبيب الذي يؤدي إلى الوفاة إن كان الطبيب من أهل الاختصاص ولم يكن منه تفريط أو إهمال ولم تخطئ يده وقام بالمعالجة على الوجه المطلوب، ولكن ترتب على فعله تلف عضو أو نفس، فهذا لا ضمان عليه بالاتفاق.
وأما لو كان مع مهارته وعدم تقصيره قد حدث منه خطأ غير متعمد أدى إلى وفاة المريض فهذا كقتل الخطإ ولا فرق بينهما شرعا من حيث الأثر المترتب عليهما وما يجب في كل منهما من كفارة، وكلاهما مرفوع عنه الإثم لقوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً {الأحزاب:5}.
وقال تعالى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا {البقرة:286}.
وثبت في صحيح مسلم أن الله عز وجل قال: قد فعلت.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. رواه ابن ماجة وصححه الألباني.
وهذا قول جمهور العلماء، وحكاه ابن المنذر وابن عبد البر وابن رشد إجماعا ـ انظر الإجماع لابن المنذر والاستذكار لابن عبد البر، وبداية المجتهد، ومجمع الضمانات، ومعين الحكام، والفتاوى الهندية، والمبسوط للسرخسي، وزاد المعاد لابن القيم، وحاشية الدسوقي.
قال ابن رشد في بداية المجتهد: وأما الطبيب وما أشبهه إذا أخطأ في فعله وكان من أهل المعرفة فلا شيء عليه في النفس، والدية على العاقلة فيما فوق الثلث، وفي ماله فيما دون الثلث، وإن لم يكن من أهل المعرفة فعليه الضرب والسجن والدية قيل في ماله، وقيل على العاقلة.
وقال ابن القيم في بيان أقسام الأطباء من جهة إتلاف الأعضاء: القسم الثالث: طبيب حاذق أذن له وأعطى الصنعة حقها، لكنه أخطأت يده وتعدت إلى عضو صحيح فأتلفه مثل أن سبقت يد الخاتن إلى الكمرة فهذا يضمن لأنها جناية خطإ.
القسم الرابع: الطبيب الحاذق الماهر بصناعته اجتهد فوصف للمريض دواء فأخطأ في اجتهاده فقتله، فهذا يخرج على روايتين: إحداهما: أن دية المريض في بيت المال.
والثانية: أنها على عاقلة الطبيب وقد نص عليهما الإمام أحمد في خطإ الإمام والحاكم، إلى آخر كلامه في زاد المعاد.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ في فتاويه في أقسام خطأ الطبيب وما يترتب على كل قسم: القسم الثالث: طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها، ولكنه أخطأ في إعطاء الدواء أو في صفة استعماله، أو جنت يده إلى عضو صحيح فأتلفته، أو مات بسببه، مثل أن يعطيه من البنج أكثر مما يستحق، أو قبل أن يفحص المريض ويعرف مقدار ما يتحمله بدنه، ومثل ما إذا جنى الخاتن على حشفة المختون، أو تعدى القلاع إلى ضرس صحيح فقلعه يظنه الضرس المختل، ونحو ذلك مما ذكره العلماء ـ رحمهم الله ـ فهذا الطبيب جنى جناية خطإ لا يمكن أن تهدر، بل هي مضمونة. انتهى.
وكفارة خطإ الطبيب إذا أدى إلى موت المريض هي كفارة القتل الخطإ وهي عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب المخلة بالعمل والكسب، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، ودليل ذلك قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَل َمُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا {النساء:92}.
ونظراً لعدم وجود الرقبة، فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين.
والدية في هذه الحالة تكون على عاقلته.
وقيل: على بيت المال.
وتسقط إذا عفا عنها الورثة.
وأما الكفارة فلا تسقط.
وتجدر الإشارة إلى أن بعض المعاصرين قد ذهبوا إلى أن نقابة الأطباء تقوم مقام العاقلة في هذا العصر، ويراجع في هذا كتاب ـ قضايا طبية من منظور إسلامي ـ للدكتور عبد الفتاح محمود إدريس الأستاذ بجامعة الأزهر.
وراجع الفتوى رقم: 5914 ، وفيها أقوال العلماء في كفارة قتل الخطإ.
ولمزيد من التفصيل حول ما يترتب على خطإ الطبيب راجع الفتاوى التالية أرقامها: 5178، 5852 ، 18906 ، 55184 .
والله أعلم.