الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فجمهور أهل العلم على أن الحج إنما يكفر الصغائر، وأمّا الكبائر فتحتاج إلى توبة خاصة، فإن الصلاة وهي أعظم من الحج لا تكفر إلا الصغائر بنص الحديث الثابت في الصحيح: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر.
ومن العلماء من قال إن الحج يكفر الصغائر والكبائر لظواهر الأحاديث، ومعنى تكفيرها أن إثمها يسقط عنه لا أن المطالبة بقضائها تسقط، فمن حج ولم يكن يصلي لزمه قضاء ما تركه من الصلوات عند الجماهير، وإن أثر الحج في إسقاط إثمها. وقد فصلنا هذه المسألة وأقوال العلماء فيها وأدلتهم في الفتوى: 24433، والفتوى: 13780.
وأما مع التوبة النصوح، فلا شك في أن الحج يكفر جميع الذنوب وانظر الفتوى: 4019.
وأما معنى التبعات، فمدار كلام الشراح على أن المراد بها المظالم التي بين العباد، ثم إن في صحة هذا الحديث خلافاً، وأكثر العلماء على أن الحج لا يكفر المظالم، بل لا بد من التوبة المستلزمة توفية الحق إلى صاحبه أو يكون القصاص يوم القيامة.
وقد تكلم الشيخ علي القاري في مرقاة المفاتيح على هذه المسألة كلاماً نفيساً ونحن نسوقه بحروفه، قال رحمه الله: وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ بلفظ: إن الله يطول على أهل عرفات يباهي بهم الملائكة يقول يا ملائكتي انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً أقبلوا إلي من كل فج عميق، فأشهدكم أني قد أجبت دعاءهم، ووهبت مسيئهم لمحسنهم، وأعطيت محسنهم جميع ما سألوني غير التبعات التي بينهم، فإذا أفاض القوم إلى جمع ووقفوا وعادوا في الرغبة والطلب إلى الله، فيقول: يا ملائكتي، عبادي وقفوا وعادوا في الرغبة والطلب، فأشهدكم أني قد أجبت دعاءهم، وشفعت رغبتهم،ـ ووهبت مسيئهم لمحسنهم، وأعطيت جميع ما سألوني، وتحملت عنهم التبعات التي بينهم.
ورواه الخطيب في المتفق والمفترق. قال بعض: وإذا تأملت ذلك كله علمت أنه ليس في هذه الأحاديث ما يصلح متمسكاً لمن زعم أن الحج يكفر التبعات، لأن الحديث ضعيف، بل ذهب ابن الجوزي إلى أنه موضوع، وبين ذلك على أنه لَيْسَ نَصًّا فِي الْمُدَّعَى لاحتماله، ومن ثم قال البيهقي يحتمل أن تكون الإجابة إلى المغفرة بعد أن يذيقهم شيئاً من العذاب دون ما يستحقه، فيكون الخبر خاصاً في وقت دون وقت يعني ففائدة الحج حينئذ التخفيف من عذاب التبعات في بعض الأوقات دون النجاة بالكلية، ويحتمل أن يكون عاماً، ونص الكتاب يدل على أنه مفوض إلى مشيئته تعالى.
وحاصل هذا الأخير أنه بفرض عمومه، محمول على أن تحمله تعالى التبعات من قبيل ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وهذا لا تكفير فيه، وإنما يكون فاعله تحت المشيئة، فشتان ما بين الحكم بتكفير الذنب وتوقفه على المشيئة؛ ولذا قال البيهقي: فلا ينبغي لمسلم أن يغر نفسه بأن الحج يكفر التبعات، فإن المعصية شؤم، وخلاف الجبار في أوامره ونواهيه عظيم، وأحدنا لا يصبر على حمى يوم أو وجع ساعة، فكيف بصبره على عقاب شديد وعذاب أليم لا يعلم وقت نهايته إلا الله.
وإن كان قد ورد خبر الصادق بنهايته دون بيان غايته متى كان مؤمناً، وهذا لا ينافي قول ابن المنذر فيمن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه، إن هذا عام يرجى أن يغفر له جميع ذنوبه صغائرها وكبائرها، وإنما الكلام في الوعد الذي لا يخلف.
وقد ألف في هذه المسألة شيخ الإسلام العسقلاني رحمه الله الباري تأليفاً سماه: قوت الحجاج في عموم المغفرة للحاج، رد فيه قول ابن الجوزي رحمه الله أن الحديث موضوع، بأنه جاء من رواية جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وإنما غايته أنه ضعيف ويعضد بكثرة طرقه، وقد أخرج أبو داود في سننه طرفاً منه، وسكت عليه فهو صالح عنده، وأخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي رحمه الله فِي الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَارَةِ مِمَّا لَيْسَ فِي [الصَّحِيحَيْنِ]، وقال البيهقي له شواهد كثيرة، فإن صح شواهده ففيه الحجة، فإن لم يصح فقد قال تعالى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وظلم بعضهم بعضاً دون الشرك. اهـ.
ولا يخفى أن الأحاديث الصحيحة الصريحة لا تكون إلا ظنية فما بالك بالأحاديث الضعيفة ولا شك أن المسائل الاعتقادية لا تثبت إلا بالأدلة القطعية رواية ودراية نعم يغلب على الظن رجاء عموم المغفرة لمن حج حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً، وأين من يجزم بذلك في نفسه أو غيره وإن كان عالماً أو صالحاً في علو مقامه، فمن المعلوم أن غير المعصوم يجب أن يكون بين الخوف والرجاء، فنسأل الله حسن الخاتمة المقرونة بقبول التوبة، وحسن العمل الموجب للمثوبة من غير سبق العقوبة. انتهى.
والله أعلم.