الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن سورة الإنسان اختلف في شأنها هل هي مكية أو مدنية، أو أن بعضها مكي، وبعضها مدني؟ وقد جزم أبو الحسن بن الحصار في كتابه الناسخ والمنسوخ بالاتفاق على مدنيتها كما نقله عنه السيوطي في الإتقان وذكر نظما له في ذلك.
وقال الألوسي في التفسير: هي مكية عند الجمهور على ما في البحر، وقال مجاهد وقتادة مدنية كلها، وقال الحسن وعكرمة والكلبي مدنية إلا آية واحدة فمكية، وهي ولا تطع منهم آثما أو كفورا، وقيل مدنية إلا قوله تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ إلى آخرها، فإنه مكي، وعن ابن عادل حكاية مدنيتها على الإطلاق عن الجمهور وعليه الشيعة. اهـ
وقال الشوكاني: قال الجمهور: هي مدنية. وقال مقاتل والكلبي: هي مكية. وأخرج النحاس عن ابن عباس أنها نزلت بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله، وقيل فيها مكي من قوله: إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً إلى آخر السورة، وما قبله مدني. اهـ
وقد رجح ابن عاشور القول بمكيتها فقال: واختلف فيها فقيل هي مكية، وقيل مدنية، وقيل بعضها مكي وبعضها مدني، فعن ابن عباس وابن أبي طلحة وقتادة ومقاتل: هي مكية، وهو قول ابن مسعود لأنه كذلك رتبها في مصحفه فيما رواه أبو داود كما سيأتي قريبا. وعلى هذا اقتصر معظم التفاسير ونسبه الخفاجي إلى الجمهور.
وروى مجاهد عن ابن عباس: أنها مدنية، وهو قول جابر بن زيد، وحكي عن قتادة أيضا. وقال الحسن وعكرمة والكلبي: هي مدنية إلا قوله ولا تطع منهم آثما أو كفورا إلى آخرها، أو قوله فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم الخ. ولم يذكر هؤلاء أن تلك الآيات من أية سورة كانت تعد في مكة إلى أن نزلت سورة الإنسان بالمدينة وهذا غريب. ولم يعينوا أنه في أية سورة كان مقروءا.
والأصح أنها مكية فإن أسلوبها ومعانيها جارية على سنن السور المكية، ولا أحسب الباعث على عدها في المدني إلا ما روي من أن آية يطعمون الطعام على حبه نزلت في إطعام علي بن أبي طالب بالمدينة مسكينا ليلة، ويتيما أخرى، وأسيرا أخرى، ولم يكن للمسلمين أسرى بمكة حملا للفظ أسير على معنى أسير الحرب، أو ما روي أنه نزل في أبي الدحداح وهو أنصاري، وكثيرا ما حملوا نزول الآية على مثل تنطبق عليها معانيها فعبروا عنها بأسباب نزول كما بيناه في المقدمة الخامسة.
وعدها جابر بن زيد الثامنة والتسعين في ترتيب نزول السور. وقال: نزلت بعد سورة الرحمن وقبل سورة الطلاق. وهذا جري على ما رآه أنها مدنية.
فإذا كان الأصح أنها مكية أخذا بترتيب مصحف ابن مسعود فتكون الثلاثين أو الحادية والثلاثين وجديرة بأن تعد سورة القيامة أو نحو ذلك حسبما ورد في ترتيب ابن مسعود. اهـ.
وسواء قلنا بمكية السورة أو مدنيتها فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رغم ورعه وسعة علمه ليس معصوما من الخطأ، وإنما هو عالم مجتهد، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر.
والله أعلم.