السؤال
ما هو الحكم الإسلامي على راسم الكارتون المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، في السيرة ورد أن الرسول طالب بقتل رجل كان يؤجر الجواري لغناء أغاني مسيئة للرسول مثلاً، ولكن في القرآن يقول المولى عز وجل: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن، ويقول تعالى : ..فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم.... وأيضاً نقرأ في القرآن أن الله تعالى يبين لنا أن الحكم على الذي يتسبب في الفتنة أو القصاص هو بتر اليد والرجل من خلاف، فما هو الحكم الأمثل لراسم الكارتون اللعين؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد قدمنا الكلام على ما يتعلق بمن تنقص النبي صلى الله عليه وسلم في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 1845، 44469، 31456 وبينا حكم الحرابة في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 49395، 13010، 17567.
وأما قصة من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله فلا نعلم فيها إلا ما روي عن ابن خطل وسببه أنه حاد الرسول صلى الله عليه وسلم وارتد عن الإسلام وقتل مسلما كان يخدمه وكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت له قينتان تغنيان بهجاء المسلمين، فقد اجتمع فيه من أنواع الشر الارتداد وإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم بالهجاء، قال النووي في شرح مسلم: إنما قتله لأنه كان قد ارتد عن الإسلام وقتل مسلماً كان يخدمه وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويسبه وكانت له قينتان تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وذكر ابن حجر في الفتح أنه: روى ابن إسحاق في المغازي حدثني عبد الله بن أبي بكر وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة قال: لا يقتل أحد إلا من قاتل إلا نفراً سماهم فقال اقتلوهم وإن وجدتموهم تحت أستار الكعبة منهم عبد الله بن خطل وعبد الله بن سعد. قال ابن حجر: وإنما أمر بقتل ابن خطل لأنه كان مسلماً فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً وبعث معه رجلا من الأنصار وكان معه مولى يخدمه وكان مسلماً فنزل منزلاً فأمر المولى أن يذبح تيساً ويصنع له طعاماً فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئاً فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركاً وكانت له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا يعارض هذا ما في آية النحل من الدعوة بالحكمة والجدال بالتي هي أحسن ولا ما في آية فصلت من الحث على الصفح والعفو وهما آيتان منفصلتان، فقد قال الله تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {النحل:125}، وقال تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ {فصلت:34}، فلا تعارض بين الآيتين وبين قتل ابن خطل إذ أن لكل مقام حكما يناسبه، فالمدعو بداية يترفق معه ويدعى بالحكمة ويجادل بالتي هي أحسن، والمخطئ يسامح ويعفى عنه وتقابل إساءته بالحسنى، فهذا هو الأفضل ويجوز مقابلة المسيء بالإساءة، فقد قال الله تعالى: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ* وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ* إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ* وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ {الشورى:40-41-42-43}.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثير الصبر والحلم، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً كما في قصة إسلام الحبر اليهودي زيد بن سعنة، ففي صحيح ابن حبان والمستدرك قال عبد الله بن سلام: إن الله تبارك وتعالى لما أراد هدي زيد بن سعنة قال زيد بن سعنة: إنه لم يبق من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه يسبق حلمه جهله ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله، قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجرات ومعه علي بن أبي طالب فأتاه رجل على راحلته كالبدوي، فقال: يا رسول الله قرية بني فلان قد أسلموا ودخلوا في الإسلام وكنت أخبرتهم أنهم إن أسلموا أتاهم الرزق رغداً وقد أصابهم شدة وقحط من الغيث وأنا أخشى يا رسول الله أن يخرجوا من الإسلام طمعاً كما دخلوا فيه طمعاً فإن رأيت أن ترسل إليهم من يغيثهم به فعلت، قال: فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل إلى جانبه أراه عمر فقال: ما بقي منه شيء يا رسول الله، قال زيد بن سعنة: فدنوت إليه فقلت له يا محمد: هل لك أن تبيعني تمراً معلوماً من حائط بني فلان إلى أجل كذا وكذا، فقال: لا يا يهودي، ولكن أبيعك تمراً معلوماً إلى أجل كذا وكذا ولا أسمي حائط بني فلان، قلت: نعم فبايعني صلى الله عليه وسلم فأطلقت همياني فأعطيته ثمانين مثقالاً من ذهب في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا، قال: فأعطاها الرجل وقال اعجل عليهم وأغثهم بها، قال: زيد بن سعنة فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار ومعه أبو بكر وعمر وعثمان ونفر من أصحابه فلما صلى على الجنازة دنا من جدار فجلس إليه فأخذت بمجامع قميصه ونظرت إليه بوجه غليظ ثم قلت ألا تقضيني يا محمد حقي فوالله ما علمتكم بني عبد المطلب بمطل ولقد كان لي بمخالطتكم علم قال ونظرت إلى عمر بن الخطاب وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير ثم رماني ببصره وقال أي عدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع وتفعل به ما أرى فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي هذا عنقك ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة، ثم قال: إنا كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن التباعة اذهب به يا عمر فاقضه حقه وزده عشرين صاعا من غيره مكان ما رعته، قال زيد: فذهب بي عمر فقضاني حقي وزادني عشرين صاعا من تمر فقلت: ما هذه الزيادة، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدك مكان ما رعتك فقلت أتعرفني يا عمر، قال: لا، فمن أنت، قلت: أنا زيد بن سعنة، قال: الحبر، قلت: نعم الحبر، قال: فما دعاك أن تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلت، وتفعل به ما فعلت، فقلت: يا عمر كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أختبرهما منه يسبق حلمه جهله ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما فقد اختبرتهما فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً وأشهدك أن شطر مالي فإني أكثرها مالا صدقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال عمر أو علي: بعضهم فإنك لا تسعهم كلهم، قلت: أو على بعضهم، فرجع عمر وزيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، فآمن به وصدقه وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشاهد كثيرة ثم توفي في غزوة تبوك مقبلاً غير مدبر رحم الله زيداً. قال الهيثمي في المجمع وابن حجر في الإصابة: رجاله ثقات.
وأما المرتد والساب فله حكم آخر هو ما بيناه في الفتاوى السابقة فهو كافر يحكم بقتله، ولكن إنكار منكره بالقتل لا يقام به إلا عند الأمن من ترتب منكر آخر أكبر منه، وذلك أن العلماء قد نصوا على أن من أراد أن يغير منكراً وعلم أن هذا التغيير سيترتب عليه ارتكاب منكر آخر أكبر منه، فإن عليه أن يقتصر على ما هو ممكن من التغيير بالقلب أو اللسان، فراجعي الفتوى رقم: 54406.
والله أعلم.